لا يكاد المرء يصدق عينيه حين يقرأ خبرا يقول إن مسئولا أمنيا فلسطينيا صرح بأن الجهاز الذى يقوده نجح فى إجهاض ٢٠٠ هجمة ضد الإسرائيليين خلال الأشهر الثلاثة الماضية، أى منذ انطلقت انتفاضة الأقصى فى بداية شهر أكتوبر الماضى. عن نفسى على الأقل فإننى لم أصدق ما قرأت لأول وهلة. وظننت أن ثمة خطأ مطبعيا جسيما قلب الأمور بحيث صارت بذلك الشكل. وحين عدت إلى قراءته ووقعت على الأصداء الفلسطينية التى تناولته بالتعليق. لم يكن هناك مفر من تصديق صحته. ومن ثم التأكد من أن مصدره هو اللواء ماجد فرج مسئول المخابرات فى السلطة الفلسطينية، وقد صرح الرجل به فى ثنايا حديث له نشرته مجلة (ديفنس نيوز) الأمريكية المعنية بشئون الأمن والدفاع. كما ذكر فيه أنه إلى جانب النجاح الذى حققه جهازه فى إجهاض تلك العمليات، فإنه تم إلقاء القبض فى ذلك السياق على مائة فلسطينى.
يبدو الخبر صاعقا من زاويتين، الأولى أنه صدر عن رئيس جهاز أمن السلطة الفلسطينية الذى كان أداؤه فى هذا المشهد لصالح أمن دولة الاحتلال الإسرائيلى. أما الثانية فإن الخبر الكارثى لم يحدث الدوى الذى يستحقه حيث لم أجد له صدى يذكر فى وسائل الإعلام العربية التى أتابعها. صحيح أن كلامه أثار عاصفة من الاحتجاج والغضب فى أوساط القوى الوطنية الفلسطينية، إلا أن الصمت العربى إزاءه لابد أن يلفت النظر. وقد استغربت الأمرين. ذلك أن قادة الأجهزة الأمنية الذين يجيدون الصمت والمداراة دائما، ليس معروفا عنهم الإسهاب فى الحديث عن العمليات التى يقومون بها. بوجه أخص فإن تلك العمليات حين تكون لصالح عدوهم وضد شعوبهم على فرض حدوثها فإنها تصبح أجدر بالتستر والمداراة، باعتبار أن ذلك يدخل ضمن العمليات القذرة التى تظل طى الكتمان دائما فى ظل صفقات وحسابات معينة. لذلك فإنه يبدو مدهشا ومستغربا إعلان الرجل أنه قام بحماية الإسرائيليين من هجمات الشبان الفلسطينيين الغيورين على وطنهم والرافضين لمذلة الاحتلال وهوانه. ولا تفسير لذلك سوى أن الرجل يتعامل باستهتار فج مع مشاعر الفلسطينيين إلى الحد الذى دفعه إلى ذلك الاجتراء.
الاحتمال الثانى لا يقل سوءا وهو أن يكون حرص على أن يوجه رسالة إلى الإسرائيليين والإدارة الأمريكية تخدم طموحه وترجح كفته بين المرشحين لخلافة الرئيس محمود عباس، الذى انتهت مدته واللغط مثار على نطاق واسع فى محيط الطبقة السياسية الفلسطينية حول سيناريوهات ما بعده.
حين يهدأ الانفعال ويخف وقع الصدمة ينتبه المرء إلى أن ثمة واقعا فلسطينيا كان لابد أن يفضى إلى تلك النتيجة الكارثية.. أقصد بذلك مسألة التنسيق الأمنى مع الإسرائيليين الذى أفرزته اتفاقيات أوسلو. إذ رغم ميوعة المصطلح وبراءته الظاهرة إلا أن الهدف الأساسى والوحيد له هو التزام السلطة «الوطنية» بضمان أمن إسرائيل ولا علاقة له بأمن الشعب الفلسطينى وتلك خلفية تعرى تماما الدور الحقيقى لسلطة رام الله، ولا تعرى جهازها الأمنى وحده. بالتالى فإنها تفتح أعيننا على العديد من ممارسات وتصريحات مسئولى السلطة التى تبدو بريئة فى مظهرها، لكنها إذا لم تصب فى صالح سلطة الاحتلال، فإنها على الأقل تسعى إلى عدم إحراجها. وهو ما حدث أكثر من مرة، خصوصا فى اجتماعات لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة فى جنيف، أو فى موضوع الانضمام إلى اتفاقية المحكمة الجنائية الدولية.
ولا أريد أن أعمم إساءة الظن بالأنظمة العربية التى أقامت علاقات علنية أو سرية مع إسرائيل، لكن التنسيق الأمنى بين إسرائيل وبين القيادات السياسية والأجهزة الأمنية فى تلك الدول تدل عليه قرائن كثيرة وشواهد عدة. وقد ظهرت بشكل أوضح فى الآونة الأخيرة حين رفع شعار الحرب ضد الإرهاب، حين انطلى على بعض الأنظمة العربية الادعاء بأن إسرائيل يمكن أن تؤدى دورا فى إطاره.
حين اختفى الشاب الفلسطينى نشأت ملحم لعدة أيام بعد العملية الفدائية التى قام بها فى تل أبيب وثارت شائعات حول اختفائه فى الضفة الغربية، فإن وزير الحرب الإسرائيلى موشيه يعلون نفى ذلك، وبنفيه فإنه فضح الجهاز الأمنى فى الضفة. إذ قال إنه إذا صح هروبه إلى الضفة فإن عملية القبض عليه ستكون أسهل «لوجود من يساعدنا هناك»! ــ وكأنه أراد أن يقول إن رجالنا هناك سيقومون نحوه بما يجب!
لا تبدو تلك مبالغة بعد الذى أعلنه اللواء ماجد فرج، الذى تباهى بإجهاض ٢٠٠ عملية فلسطينية ضد الإسرائيليين. وقد شاءت المقادير أن يسلط مزيدا من الضوء فى هذه الأجواء على المدى الذى بلغه التغلغل الإسرائيلى فى مؤسسات سلطة رام الله. إذ أعلن عن اكتشاف عميل فى مكتب السيد صائب عريقات أمين سر اللجنة التنفيذية لحركة فتح، تبين أنه يعمل لحسابها ويسرب الوثائق والمعلومات التى تقع تحت يديه لإسرائيل منذ عشرين عاما. وهو ما لم يفاجئ كثيرين لأن الاختراق الإسرائيلى لمختلف مواقع ومفاصل السلطة أصبح أمرا شائعا وغير مستغرب. فى ظل استئساد الأجهزة الأمنية على المناضلين الفلسطينيين وتخاذلها أمام ممارسات المستوطنين وعربدتهم.
ما الذى ننتظره من الشبان الفلسطينيين الذين يتلقون الطعنات فى صدورهم من الإسرائيليين فى حين يتلقون الطعنات فى ظهورهم من أجهزة السلطة المتربصة بهم؟