جمال عبد الجواد
ماذا لو لم يكن «الخامس والعشرون من يناير»؟
تتيح الذكرى الخامسة لانتفاضة الخامس والعشرين من يناير مناسبة للتدبر والتقييم، وقد اخترت أن أشغل نفسى بالتفكير فيما كان يمكن لبلدنا أن يكون عليه لو سارت الأمور فى مسار مختلف فى الأيام الأربعة الحاسمة بين الخامس والعشرين والثامن والعشرين من يناير 2011. لو لم تقع انتفاضة يناير لكان هناك أشياء مؤكد حدوثها فيما تلى ذلك من سنوات، وهناك أشياء أخرى كان مرجحاً لها أن تحدث، وأشياء كان الممكن لها أن تحدث، وتبقى هناك أشياء لم تكن لتحدث على الإطلاق وفقاً لأى منطق سليم.
لو لم تندلع انتفاضة الخامس والعشرين من يناير لكانت سلالة مبارك ما زالت تحكم مصر. هذا مؤكد. لكن من غير المؤكد ما إذا كان حسنى مبارك ليواصل الاحتفاظ بمنصبه الرئاسى أم أن المنصب الرفيع كان ليذهب إلى ابنه الأصغر. من السهل تخيل شكل مصر لو أن حسنى مبارك استمر فى منصبه، فالسنوات العشر الأخيرة من حكمه تدلنا على الحال الذى كان يمكن أن نكون عليه لو بقى مبارك فى منصبه لفترة رئاسة جديدة. درجة اليقين تقل لو كانت الرئاسة لتؤول لمبارك الابن. رئاسة جمال مبارك كان يمكن لها أن تكون أى شىء يقع فى المسافة بين ما حدث فى المغرب من إصلاحات بعد أن خلف الملك محمد السادس والده فى الحكم، وما حدث فى سوريا فى عهد الخليفة بشار الأسد. جاء محمد السادس وبشار الأسد إلى الحكم حاملين الكثير من الوعود، فأوفى الأولى بقدر كبير منها فيما نكث الثانى بكل الوعود، مع الأخذ فى الاعتبار الفروق المعروفة بين مصر والبلدين الشقيقين.
لو استمر حكم آل مبارك فالمرجح أن الاقتصاد المصرى كان ليواصل معدلات أدائه التى حققها منذ عام 2004 وحتى سقوط مبارك. هذا مرجح جداً. لكن لا يمكن الجزم ما إذا كان نظام رأسمالية المحاسيب ليستمر بنفس الشكل، أم يزداد سوءاً، أو يتحسن قليلاً، فالصراع الاجتماعى والسياسى الذى شهدته سنوات مبارك الأخيرة كان يمكن له أن يتطور فى أى اتجاه فى إطار نفس النظام السياسى ونفس الاختيارات الاجتماعية والسياسية.
لو لم يسقط نظام مبارك لاستكمل مجلس الشعب الذى انتخب فى عام 2010 مدته كاملة، هذا مرجح، ولكنا شهدنا انتخابات برلمان جديد فى عام 2015. وجرياً على عادة نظام مبارك الذى تلاعب بانتخابات مجلس الشعب، فكانت بعضها أفضل وأكثر تمثيلاً من بعضها الآخر، فربما جاء برلمان 2015 أفضل كثيراً أو قليلاً من سابقه، مع احتمال محدود أن يكون أسوأ منه، فقد برع نظام مبارك فى استخدام البرلمان كصمام لتنفيس الاحتقان الذى كان هناك الكثير منه.
لو لم يسقط نظام مبارك لاستمر الحزب الوطنى معنا حزباً للأغلبية حتى الآن، هذا مؤكد. ربما كان جمال مبارك لينجح بقدر فى محاولاته لإصلاح وتهذيب الحزب، وربما كان ليتخلى عن هذه المهمة تماماً، فلا شىء أصعب من إصلاح حزب نشأ وتربى فى كنف السلطة.
لو لم يسقط نظام مبارك لواصل الإسلاميون اختراقهم للمجتمع ومؤسساته، ولظل الإخوان تنظيماً كبيراً محظوراً من الناحية الرسمية رغم حرية الحركة الواسعة المتاحة له حتى لو لم يكن ممثلاً فى البرلمان، ولبقينا محكومين بمناورات القط والفأر السلمية بين الدولة والإخوان، هذا مؤكد. ربما كان الإخوان ليتقاربوا مع السلطة فى صفقة لتأييد جمال مبارك رئيساً، وهو أمر لم يكن الإخوان يستبعدونه، وربما تدهورت العلاقة بين الطرفين إذا بالغ الإخوان فى مطالبهم، لكن فى كل الأحوال كان تنظيم الإخوان ليواصل تعزيز نفسه ليصبح تحدياً أكثر جدية مما كان عليه فى مطلع عام 2011.
مساحات حرية التعبير والاحتجاج التى أتاحها نظام مبارك فى سنواته الأخيرة كان لها أن تتوسع أو تضيق قليلاً، ولكنها لم تكن لتلغى نهائياً أبداً، هذا مؤكد. فرغم الأفق الديمقراطى المسدود لنظام مبارك، وهذا أيضاً مؤكد، فإن إتاحة مساحات من المجال العام للتعبير عن الآراء والمصالح المعارضة بمنطق «خليهم يتسلوا» ظل دائماً واحداً من قواعد الإدارة السياسية للنظام. لو لم يسقط نظام مبارك لتواصل اتساع نطاق حركة الاحتجاجات المطلبية، هذا مرجح، وإن بقيت الاحتجاجات السياسية تحت الرقابة اللصيقة والسيطرة، وهذا مؤكد.
لو لم يسقط نظام مبارك لما سقطت جدران الخوف والسلبية التى حرص النظام على تعزيزها، هذا مؤكد، ولظل المصريون محدودى المعرفة والخبرة السياسية، وهذا مؤكد أيضاً. انتفاضة الخامس والعشرين من يناير بكل مشكلاتها أتاحت للمصريين خبرة سياسية عميقة يصعب علينا تخيل آثارها فيما يأتى من الأيام. الخبرة السياسية التى اكتسبها الشعب الجزائرى فى سنوات الصراع السياسى والحرب الأهلية علمت الأشقاء فى الجزائر الخوف من الفوضى وتثمين الاستقرار ولو تحت سلطة مستبدة، فهل ستتطور الأمور فى مصر على هذا النحو، أم أن خبرات المصريين السياسية الجديدة ستشجعهم على تكرار المحاولة مثلما فعلت شعوب أخرى خارج عالمنا العربى؟
القراءة المعروضة فى هذا المقال تبسيطية، هذا مؤكد، ولكنها مفيدة، وهذا محتمل. نظام مبارك لا يعنينى فى شىء، ولكن يعنينى عدم إهدار الذكرى الخامسة لانتفاضة الخامس والعشرين من يناير دون تدارس خبراتنا السياسية الثمينة، ودون تدبر الدروس التى أتاحتها لنا، فما حدث فى هذا البلد قبل خمس سنوات هو هائل بكل المقاييس، ولا يهم إن كنت تحب «يناير» أو تبغضها، فالمؤكد أن آثارها سترسم مستقبل هذا البلد لسنوات مقبلة.