د. محمود خليل
انتصار «يناير» حتمى.. يا هؤلاء
يوم 25 يناير 2011 كنت أخطو وئيداً -قدر ما أمهلتنى الحياة- نحو العقد الخامس من عمرى، أحمل على كاهلى -مثلى مثل الكثيرين من أبناء جيلى- إحساساً بالإحباط واليأس من أن يتغير شىء فى محيط الحياة التى نحياها فوق تراب «المحروسة». كنا نختزن بداخلنا سببين للإحباط، أولهما يتعلق بعصر السادات، وثانيهما يرتبط بعقود حكم «مبارك». تفتح وعيى على حلم التغيير المُحبَط فى 18 و19 يناير 1977، حين شاركت مع غيرى فى انتفاضة «الخبز»، لم يكن عمرى يتجاوز وقتها العقد ونصف، لكنه كان كافياً لتلقينى حقيقة أن المجتمع يحتاج إلى تغيير، ومنذ ذلك الوقت تكون بداخلى ذلك الحلم بـ«وطن أفضل»، ومجتمع أكثر حرية وكرامة. انتهى مشهد السبعينات بحادث المنصة الشهير، وتولى «مبارك» الحكم، عام 1981، وهو العام الذى انتهيت فيه من دراستى الثانوية والتحقت بالجامعة. ظل «مبارك» جاثماً على صدورنا ثلاثة عقود كاملة. كان أمراً مثيراً للغاية أن أقف أمام المرآة يوم 11 فبراير، لأتأمل رأسى الذى شاب، وأسترجع فصول رحلة الركود فى حياة جيل بأكمله، تلقفه «مبارك» فى مرحلة المراهقة، ولم يتركه إلا بعد أن شاب شعره!.
«يناير» حلم بالتغيير والإصلاح ظل يتراكم عبر عقود طويلة حتى استوى على سوقه عام 2011، حلم أعجب من تدفقوا إلى ميدان التحرير يوم الثلاثاء (25)، وظلوا ممسكين بأهداب حلمهم، رغم تقلب الظروف والأحوال فى بر مصر طيلة السنوات الخمس الماضية. كان من الطبيعى أيضاً أن يغيظ هذا الحلم الذى بدأ يقف على قدمين، بعد الإطاحة بـ«مبارك»، من وجدوا عيشهم وحياتهم فى تلك المعادلة الشيطانية التى غرسها «المخلوع» فى أرضنا الطيبة عبر ثلاثة عقود، معادلة التمكين «للأنصاف»، كل نصف فى هذا البلد يلعن يناير، ويحن إلى أيام مبارك: أنصاف المتعلمين (من حصلوا على شهادات دون تعليم)، أنصاف الفاسدين (من ينهبون ثم يزكون ويصلون)، أنصاف الكفاءات (من يعتمدون فى اكتساب النفوذ على شهادات ورقية ويصلون إلى مواقع صناعة القرار بالشللية والمحسوبية)، أنصاف المستنيرين (من يلعنون الخطاب المزيف للمتطرفين، ويقفون فى الوقت نفسه ضد محاولات تجديده)، أنصاف السياسيين (من يرغون ويزبدون فى استديوهات الإعلام ويعجزون عن إقناع مواطن واحد بانتخابهم)، أنصاف الأخلاقيين (من ينتصرون للأخلاق عندما يكون الحق لهم ويدوسونها بأقدامهم عندما يكون الحق عليهم).
قامت «يناير» ضد تلك المعادلة الشيطانية، معادلة الأنصاف، التى ابتلانا بها «مبارك»، نامت «الأنصاص»، وحاولت «القوالب» القيام بعد عقود طويلة من الركود والاستنامة، لم يكن وقوفها بالأمر السهل بحال، بل كان من الحتمى أن تهتز وترتبك، بل وتقع، إنه أمر طبيعى جداً، لكنها حتماً ستستوى بعد حين فى أماكنها ليقوم على أكتافها البناء. والسبب فى ذلك بسيط جداً هو أن بناء «المخلوع» الذى ارتكز على «الأنصاص» كان هشاً بطبيعته، وعمره الافتراضى محدود، بمحدودية تماسكه، وعندما هبت فى وجهه ثورة يناير سقط رأسه، وبقيت حوائطه، وطيلة السنوات التى أعقبت الثورة المجيدة، وهذه الحوائط تحاول التماسك، لكن أنَّى لها وقد ملأتها الشروخ؟. إياك أن تظن أن «المحنناتية» على عصر مبارك على قلب رجل واحد، حذارِ أن تتصور أن من يحاولون استعادة دولة «الأنصاص» بنيان مرصوص، راجع فقط صراعات الأشهر الماضية بين قوى وأشخاص وأجهزة، وستعلم أن الشروخ تنخر فى أعداء يناير من كل اتجاه، ليس بسبب جهود يبذلها المؤمنون بالثورة، بل بسبب الحتمية التاريخية، فالجدار المشروخ لا يلتئم، ولا مناص من انهياره وإقامة جدار جديد مكانه.
سقط «مبارك»، عندما افتقد نظامه صلاحية الاستمرار، وبذا كان سقوطه حتمياً، نظام المخلوع «مخلَّع» هو الآخر، وسيسقط وحده، حتماً سيسقط. هكذا يقول العقل والتاريخ والتجربة السياسية. عبر عامين ونصف اتهمت «يناير» وأصحابها بكل «نقيصة»، «النصف» بطبيعته يميل إلى «الردح»، والذم و«القدح»، يظن أنه أعلى رأساً من القالب، لكنه ينسى أن القالب مستقر على الأرض أكثر منه، أكثر منه بكثير، ثبات القالب مضمون، أما «النصف» ففى مهب الريح. استطاعت «يناير» وهى تُسب وتُلعن آناء الليل وأطراف النهار أن تحقق الكثير، جعلت الكلمة للشعب، يكفى أن أذكرك برفض قانون الخدمة المدنية فى وقت استعرت فيه الحملة على الثورة مع اقتراب ذكراها الخامسة، المظاهرات والإضرابات والاعتصامات حق يمارسه المصريون على الأرض رغم صدور قانون «التظاهر»، كثيرون يودون تغيير الدستور، لكنهم لا يقدمون على الخطوة، المال السياسى يلعب فى الانتخابات، لكن أحداً لا يجرؤ على تزوير إرادة الناخبين، أصبح الحديث عن حقوق الشباب والمرأة والأقباط وذوى الاحتياجات الخاصة جواز مرور لكل من يريد أن يقدم نفسه إلى الشعب، الحديث عن الفساد أصبح «لبانة» فى أفواه الكثيرين من أجل إرضاء «يناير»، فكرة الضحك على دقون المصريين بالشعارات الدينية أو الوطنية الزائفة لم تعد تنطلى على أحد. أزيدك من الشعر بيتاً.. إن من يلعنون «يناير» ويصفونها بالمؤامرة، لا يملك أحدهم فى أوقات، سوى التمحك فيها قائلاً: «لقد ذهبت إلى التحرير»، «لقد شاركت فى الثورة»، أحدهم قال مؤخراً إن «يناير» ثورة سرقها الإخوان، و«يونيو» ثورة سرقها غيرهم!.
«يناير» شجرة طيبة «أصلها ثابت وفرعها فى السماء تؤتى أكلها كل حين». بطيئة نعم، لكنها مستمرة، تغييراتها على الأرض محدودة نعم، لكنها متواصلة، تلاقى العنت من جهات عدة، لكنها صامدة، تصفح عن أعدائها، لأنها تؤمن بأننا جميعاً مصريون، لكنها لا تفرط فى أهدافها. يناير ستنتصر.. لأنها كانت ثورة حقيقية، ثورة شعب آمن بالتغيير والإصلاح، صرخة ملايين حالمة بمصر أفضل.. انتصار يناير حتمية تاريخية يا هؤلاء!.