د. نصر محمد عارف
25 يناير.. «كان حلم بس انصحى»
دون مجاملة، فليس الوقت وقت مجاملة، ولا هى من طبيعتي، ودون حساسية وطبطبة، فالحقيقة صادمة، والأطراف انتهازيون بلداء، يقول فيهم الشاعر الكبير سيد حجاب ـ فيها ناس واكلينّا بالنطاعة.. آل ايه وْعايزينّا نبقى طُوُعْ، ووطننا أصبح معروضاً للبيع فى سوق تجار الدين وتجار الوطنية، وكلاهما انتهازيون مخادعون.
ثورة 25 يناير 2011 كانت انبثاقاً وتجلياً نادراً لروح مصر، ولجوهر الاسلام والمسيحية، كانت ومضة من ومضات زمن ما وراء الزمن، كان معجزةً الهيةً، ومنحةً ربانيةً، كأن من كانوا فيها من عالم الملائكة، لكن تجار الدين من شياطين الانس استشعروا الخطر، وخافوا من كساد تجارتهم، وضياعهم ملكهم، فما لبثوا الا أن قتلوا مسيح مصر، وأطفأوا نور التجلى، وأهالوا التراب على أعظم معانى أخرجها الشعب المصرى منذ دخول الاسلام الى مصر، ثم خرج غربان الوطنية وتجارها، فحولوا النور الى ظلام، والملائكة الى شياطين، وأطفأوا كل الشموع فى حضرة العذراء ومقام أم هاشم.
عادت مصر الى سابق عهدها، وكأن الثمانية عشر يوما هى اللحظة التى وصفها لسان الدين ابن الخطيب فى قوله لم يكن وصْلُك اِلاّ حُلُمًاً فى الكرى أَو خُلسة المختَلِسِ، وعدنا الى دورة التاريخ المصرى الحديث؛ التى تعاملنا كحبوب القمح؛ من المستحيل أن تنجو من الرحي، فى حلقة مغلقة مأسوية؛ وصفها الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى فى احدى أغنيات مسلسل الرحايا: حجر القلوب بقوله: بين الضلام والنور.. بين المسا والضحي/ شمس الزمان بتدور .. يا جايه يا مروحه/ يا أبو الجناح مكسور.. كان حلم بس انصحي/ والقمح بيدور يدور.. ويرجع لقلب الرحي.
ثورة 25 يناير كانت حلماً، ولكنّ الحلم ذاته، كره أن يكتمل؛ فتيقظ قبل أن يستيقظ الحالم به، أى أنه انصحى كما يقول الأبنودى فى صياغة عبقرية تختصر العديد من الجُمَل فى كلمة واحدة، هذا الحلم الأسطورى النادر لخصتُه ـ فى لحظة صفاء نفسى قبل أن تعشعش الغربان والبوم فى كل أرجاء مصرـ وصغته مختصراً فى مجموعة تغريدات على زس .ومظاهرات ميدان التحرير تحتمى بالمكان، وتحتله وتتوسع به ومعه وتوسِّعه.
4- المظاهرات محددة بوقت، والتحرير وقته مفتوح.. المظاهرات فعل متوتر غاضب والثورة المصرية ساخرة ضاحكة.. المظاهرات يشارك فيها النشطاء، والتحرير كان مزاراً للزواج والتقاط الصور.. الثورات عنيفة والمصرية مسالمة.
5- الثورات لها قيادة والمصرية عفوية بلا رأس.. الثورات لها أيديولوجية والمصرية حالمة بلا خطة واضحة.. الثورات تعرف ما تريد، والمصرية تتوالد مطالبها مع كل فجر جديد.
6- الثورة المصرية أحدثت تغييرا عالميا فلأول مرة نصدُّر نموذجا سياسيا للعالم بعد ان عشنا قرنين على التقليد والاستيراد.. نموذج ميدان التحرير تكرر فى نيويورك ولندن وغيرهما.
7- الثورة المصرية أسقطت كل دعاوى الغرب واتهاماته للعرب والمسلمين: لم يعد يستطيع الغرب أن يتهمنا بالعنصرية أو التطرف الديني، فالتلاحم بين المسلمين والأقباط كان نموذجيا، لم يعد يستطيع الغرب اثارة قضية المرأة بعد المشاركة الرائعة للمرأة فى ثورة يناير دون تحرش او اهانة، ولم يعد يستطيع الغرب أن يتهمنا بالعنف بعد أن قمنا بأكبر تغيير سياسى فى تاريخ العرب الحديث بصورة سلمية؛ حتى فى مواجهة العنف، ولم يعد يستطيع الغرب اتهام المرأة المحجبة والمنتقبة بالسلبية أو التخلف بعد أن صعدت منتقبة فوق الدبابة فى عنفوان وقوة.
8- الثورة المصرية أنقذت الشباب المسلم من الانخراط فى مشروع الارهاب والعنف؛ لأنه رأى أنه يستطيع أن يغير أقوى نظام عربى بالنكته والهتاف الضاحك، الثورة المصرية نزعت الشرعية عن جماعات العنف والارهاب المنتسبة للاسلام لأنها حققت أعظم مما يدعون بسلام.
فتحية الى شباب مصر، وتحية الى جيش مصر العظيم الذى حمى الثورة وحملها الى بر الأمان، تحية الى قيادات الجيش المصرى التى ترفعت عن المناصب وطمع فيها من كان آخر من انضم لثورة 25 يناير.
كانت هذه لحظة البراءة والطهر والنقاء التى تجلت فيها روح شعب مصر وطبيعته الكامنة تحت طبقات متعددة من ركام الزمن وتراكم الثقافات والتواريخ؛ نفس هذه اللحظة ذاتها هى التى استقبلت العرب والاسلام مع عمرو بن العاص عام 641م، هى نفس الطبيعة، ونفس العمق، ونفس الاعلاء لقيمة الانسان والمجتمع والسلام على قيم السلطة والسطوة والقوة والهيمنة.
لكن طيور الظلام، وبوم الخرائب وغربانها، من المتاجرين بالدين استشعروا الخطر وخافوا كساد بضاعتهم، فتحرك تنظيم الاخوان واستعان بصنائعه فى غزة وحلفائه من المصابين بداء العظمة والاستعلاء فى جنوب الوادي، وتحركت كل صنائع التدين المغموس فى النفط، وحولتها الى تجارة، وبعد أن رأينا القسيس بزيه الكهنوتى الوقور يمسك بمقشة ويكنس الشوارع مع الأهل والجيران، وبعد أن رأينا سكان العمارات والحارات يحرسونها من بلطجية الحزب الوطنى والهاربين مع الاخوان من السجون، تغيرت الصورة، ورجعت ريمه لعادتها القديمة.
وبدأت كل القوى التى سحبت الثورة من تحت أقدامها البساط، ونزعت شرعيتها، التحرك لتدافع عن مواقعها ومصالحها، فكانت أحداث ماسبيرو، وحرق كنيسة أطفيح، ثم غزوة الصناديق، وأحداث محمد محمود، وظهرت الأحزاب الدينية، وانتشرت البلطجة والعنف، وأخرج الانسان المصرى أسوأ ما فيه من انحطاط أخلاقى متمثلا فى السرقة والاختطاف والاغتصاب وقطع الطريق، وأخيرا جاءت انتخابات مجلس الشعب، وتم توظيف الخطاب الدينى من قبل الاخوان والسلفيين، وتمت شيطنة الأقباط والليبراليين واليساريين.
وبعدها جاءت انتخابات الرئاسة وكانت نهاية الحلم، ثم جاءت ثورة 30 يونيو لتصحح المسار؛ وتعيد للثورة زخمها، غير أن من خسروا السلطة بعد أن ذاقوا لذتها أعادوا مصر الى ما هو أسوأ مما قبل 25 يناير؛ فانقسم المجتمع، وتشتت الوعى، وأصبحت قيم الوطن والوطنية موضع نقاش وتساؤل، وظهرت التنظيمات الارهابية فى سيناء، وانتشر القتل العشوائى، والتفجير العبثى فى شوارع مصر، وانصحى الحلم.