المساء
مؤمن الهباء
شهادة - زمن الكانون
واحدة من إيجابيات أزمة أنابيب البوتاجاز التي تفاقمت هذه الأيام أنها ذكرتنا بزمن الكانون والفرن البلدي.. كلما استحكمت الأزمة بشرتنا الصحف في عناوين عريضة بأن مصر سوف تعود إلي الكانون.. وفي بعض المحافظات - الدقهلية تحديداً - لجأ الأهالي فعلاً لاستخدام الكانون في الطهي لمواجهة نقص الاسطوانات وارتفاع أسعارها إلي 50 جنيهاً للأنبوبة.
لا أدري إذا كانت الصحف تذكرنا بالكانون ونحن في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين من باب التبكيت أم من باب التهديد.. هل تريد أن تذكرنا بأصلنا وفصلنا حتي لا يرتفع لدينا سقف الطموحات ونحن نفكر في أنبوبة الغاز.. أم أنها تهددنا بشكل جدي وعملي بأن زمن رفاهية البوتاجاز قد شارف علي الانتهاء.. وأننا سنعود - كما بدأنا - إلي الكانون والفرن البلدي.
عموماً.. أبناء الريف - أمثالي - يعرفون الكانون جيداً ويحنون إلي أيامه.. وهو لمن لا يعرف من أبناء الجيل الحالي عبارة عن بناء من 3 حوائط من الطين أو الطوب اللبن توضع عليه أواني الطهي - الأذان الكبير - ويتم إشعال النار تحت هذه الأواني بالحطب أو خشب الأشجار الجافة.. كان الكانون هو الوسيلة الأقدم نسبياً للطهي.. وابور الجاز كان الأحدث والأسهل في الاستعمال.. لكنه كان يحتاج إلي جاز "كيروسين" لتشغيله.. أما الكانون فلا يحتاج إلي شيء من خارج البيت.. فالحطب المتوفر من عيدان الذرة وعيدان شجرة القطن الجافة متوفرة فوق سطوح البيوت الواسعة.
وكل من أكل من طعام الكانون يعرف أن له مذاقاً لا يضاهيه مذاق أي طعام آخر تم طهيه علي وابور الجاز أو البوتاجاز أو حتي أفران حضرموت المستحدثة.. لا أدري ما هو السبب.. لكن الذي أعلمه جيداً أننا كنا نشم لطعام الكانون رائحة ونحن في الشارع.. خصوصاً عند طهي اللحوم أو الدجاج والبط والحمام والمحشي والأرز والملوخية والأرانب والكسكسي.. أما طعام اليوم.. طعام البوتاجاز.. فلا نكاد نشم له رائحة حتي وهو في الأطباق أمامنا علي المائدة.
نحن إذن لا نهاب الكانون ولا نشمئز منه.. بل لعل العكس هو الصحيح.. وعلي الذين يستخدمون الكانون فزاعة لتبكيتنا أو تهديدنا أن يتوقفوا عن ذلك.. وأن يتأكدوا من أن الأمر لا يفرق معنا.
وربما جاء وقت انقلب فيه السحر علي الساحر.. وانعكست الصورة.. فنستخدم نحن الكانون سلاحاً للمقاطعة.. نحارب به أولئك الظلمة الذين يحتكرون الغاز لإذلالنا.. ويضاعفون سعر أنبوبة البوتاجاز أضعافاً مضاعفة دون رقيب.. ويضاعفون فاتورة الغاز ايضا أضعافاً مضاعفة.. وفاتورة منزلي نموذج صارخ.. فقد كنت أدفع حوالي أربعين جنيهاً في الشهر حتي نهاية العام الماضي.. ثم فاجأتني فاتورة يناير بمائة وعشر جنيهات دون زيادة في حجم الاستهلاك.. وعندما سألت المحصل قال إنه تم زيادة أسعار بعض الشرائح.. فكان ردي: حسبي الله ونعم الوكيل.. هذه ليست زيادة وإنما مضاعفة الفاتورة بنسبة 175%.
ليتنا نعود إلي زمن الكانون والفرن البلدي.. عندما كان خير أرضنا فوق سطح بيتنا.. وطعامنا ووقودنا مخزون لدينا ومضمون من العام للعام.. لم نكن نحتاج الحكومة في شيء.. ولم يكن أحد يستطيع أن يتاجر بنا أو يحتكرنا أو يتحكم فينا.. كنا أحراراً في زمن الكانون.. لكن الزمن اختلف.. بيوتنا صارت ضيقة.. ووقتنا صار ضيقاً.. وجهدنا صار أضعف وأضعف.. فتحكموا فينا كما تشاءون.
نحن الآن أسري الشقة والبوتاجاز والتليفزيون والسخان والكيتشين ماشين والميكرويف والراوتر والثلاجة والفريزر.. ولا نستطيع العودة للكانون.. قل للزمان ارجع يا زمان!!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف