جاءنى مكروباً مهموماً يغالب دموعه بصعوبة ويستحى أن أراها. قال لى إنه لم ينم منذ شهرين منذ وقعت الواقعة ولا يهنأ بعيش ولا راحة ولا حياة أسرية من يوم أن وقع فى الزنا لأول مرة. كانت لحظة جنون للشهوة استلب الشيطان فيها عقله وتدينه، ونسى زوجته التى هى أجمل بكثير من التى واقعها فى الحرام.
أصبح لا يأكل ولا يشرب ولا يحسن عمله، يضيق صدره باستمرار، تخنقه دوماً العبرات، احتار أشقاؤه فى أزمته المتصاعدة فلم يجد بداً من مصارحتهم.. ذكّروه بقوله تعالى: «وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ الله إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيمَاً».
قالوا له: لقد تبت توبة نصوحة وأنت تدخل ضمن من ذكرتهم الآية ووعدتهم بتبديل سيئاتهم إلى حسنات.. اطمئن قليلاً لكنه عاد لحالته الأولى.
كان مضطرباً غاية الاضطراب وهو يتحدث إلىّ فى الشارع ثم فى البيت أيضاً.
قلت له: إن الشيطان يدخل إلى ابن آدم بطريقتين، إحداهما قبل المعصية، حيث يزينها له حتى يقع فيها. والثانية بعدها حيث يزين له اليأس من رحمة الله، ويغلق باب التوبة أمامه، فإذا أراد الصلاة كعادته وسوس له الشيطان قائلاً: كيف تصلى بعد أن اقترفت ما اقترفت؟ وإذا أراد صوم النافلة أو الفريضة قال له: مثلك لا يُقبل منه صوم بعد ما فعل؟ وإذا أراد أن يؤدب ولده وسوس له الشيطان: بدلاً من أن تؤدبه أدّب نفسك، دعه لحاله، وهكذا يؤزه الشيطان أزاً على ترك كل الطاعات ويُقنطه من رحمة الله الواسعة.
تنهّد الرجل وكأن كربة قد انزاحت عنه. قلت له: المؤمن كالطائر يسير إلى الله بجناحين هما الخوف والرجاء، ولو أن الخوف وحده تملّك العبد لجعله قانطاً من رحمة ربه.. والخوف يجعلك تخشى الله، ولكن الرجاء يحببك فى الله ويجعلك تترك المعصية من باب الحب لله والحياء منه.
وقد طلب الإمام أحمد بن حنبل من ربه أن يفتح له باب الخوف منه سبحانه، فلما فتح عليه هذا الباب تحولت حياته إلى جحيم، فهو فى خوف دائم من الله والنار والعذاب والقبر وأهوال يوم القيامة، ولا يهنأ بطعام ولا شراب ولا علم ولا زوجة ولا ولد ولا حياة، فدعا ربه أن يغلق عليه باب الخوف قبل أن يهلك.
هدأ الرجل مرة أخرى قائلاً: ليس بالخوف وحده يسير الإنسان إلى الله. قلت له: يسير الإنسان إلى الله بجناحى الصبر والشكر، الصبر عند المصائب، والشكر عند النعم، ولكن الصبر مؤلم للنفس البشرية. أما الشكر فيُسعد النفس البشرية ويحبب الإنسان فى ربه.. وكذلك يسير إلى ربه ومولاه بجناحى الخوف والرجاء. والخوف مؤلم وشاق على النفس البشرية، وهو باب الهيبة من الله. أما الرجاء فهو يجلب الحب لله ويسعد النفس ويحلق بها فى آفاق المحبة لله والكون كله بغير حساب.
وزيادة الرجاء تضر فقط إن كانت بلا مردود عملى، أما الخوف فزيادته قد تحول بين العبد والعمل الصالح.
انفرجت أسارير التائب أكثر وأكثر.. فقلت له: هل معصيتك أكبر أم رحمة الله أعظم؟ قال: رحمه الله.. قلت له: هل معصيتك أكبر أم معصية الذى قتل تسعة وتسعين نفساً ثم أكمل بالمائة؟ قال: لا.. هى أقل بكثير من معصية الدماء؟ قلت له: لقد غفر الله لهذا الرجل لمجرد توجهه نحو أرض الطاعة وغيَّر الله منار الأرض إكراماً لتوبته.. ألم يقل الله تعالى «وَرَحْمَتِى وَسِعَتْ كُلَّ شَىْءٍ».
يا أخى، إن لم يشرع الله التوبة للعبد فإنه سـ«يفقد» على رأى عوام المصريين، فيكرر القتل مرات، والزنا مرات، وأكل أموال الناس بالباطل باستمرار.. لأن مرة مثل مرات.. ولهذا حينما أغلق العابد باب التوبة أمام الذى قتل 99 نفساً لم يجد أمامه بداً من قتله ليكمل به المائة لأن الأمر يستوى عنده، فالعابد أغلق عليه سعة رحمة الله التى لا تُغلق أبداً.. والعابد معذور، فعلمه بالله وبأمر الله محدود، ولعله قال لنفسه: هل يريد هذا القاتل أن يدخل الجنة معى بعد كل هذه العبادة من جانبى، فاستكثر رحمة الله عليه.
لقد شرع الله التوبة رحمة بالتائب من الاستمرار فى المعصية ورحمة بالمجتمع من الانزلاق إلى حمأة المعاصى والموبقات.
تنهّد الرجل مرة أخرى وكاد أن يبكى قائلاً: كيف أقع فى هذا المنكر العظيم ولم أكن أتصور يوماً أن أنزلق إلى مثل هذا المستنقع؟
قلت له: ما مضى مضى، وندمك على الذنب توبة، وعزمك على عدم تكراره توبة، وخوفك من الله توبة، وما أنت فيه الآن من ذل وهوان لربك قد يكون أعظم من طاعات كثيرة قدمتها سابقاً كنت معجباً بها ومدلاً على الله بها ومغروراً بها بين الخلائق.
ألم تسمع من قبل ما قاله العلماء والحكماء «رُب معصية تذل بها لديه (أى عند الله) أعظم من طاعة تدل (أى تمن) بها عليه».. فأحياناً يكون العاصى التائب الخائف الوجل أقرب إلى الله من ذلك العابد المغرور المتكبر المستطيل على الخلائق بعبادته.
ورغم ذلك كله تساءل التائب: هل يغفر الله لى ذلك الذنب العظيم؟
قلت: من أسماء الله الحسنى «التواب والغفور والعفو الرحيم»، فكيف تعمل هذه الأسماء، وما أهميتها إذا لم يكن هناك عصاة يتوبون فيتوب الله عليهم.. ويستغفرون فيغفر الله لهم.. ويطلبون الرحمة فيرحمهم الله؟
قال: هذا فى الصغائر؟ قلت له: لا.. الصغائر تكفرها الصلاة إلى الصلاة، والوضوء إلى الوضوء، والجمعة إلى الجمعة، ولكن الله يغفر الذنوب جميعاً.
قال: لقد تحدثت مع أشقائى عن هذا الذنب؟ قلت له: إذا كان الله قد فرض عليك أن تستر على غيرك فمن باب أولى أن تستر على نفسك «فالستر حياة».. وقد جاء رجل إلى رسول الله «برجل زنى»، فقال له الرءوف الرحيم: «هلا سترته بثوبك». وإذا كان ثواب من يستر على غيره كبيراً فإن من يستر على نفسه ثوابه أعظم، إذ يعين نفسه بذلك على التوبة والأوبة.. «فالستر حياة والفضيحة موت».. اللهم عاملنا بما أنت أهله ولا تعاملنا بما نحن أهله فأنت أهل التقوى وأهل المغفرة.