القمص أنجيلوس جرجس
سعادة العطاء أكثر من الأخذ
في عالم مشحون بالأنانية والتوتر والصراعات والدم نعيش حالة من إنسانيتنا المجروحة ننزف فيها صورتنا وملامحنا الطيبة والخيرة، نشوة جمال الإنسانية التي أبدعها الخالق في نفوس البشر. فالأنانية هي تشويه الإنسان. فقد خلقنا اللـه نحب بعضنا البعض، وحين سقطت الإنسانية في هذا المرض وصار الإنسان يبحث عن ذاته ازدادت الأمراض النفسية، حتى إن بعض الدراسات تقول إن الذين يعانون من أمراض نفسية مزمنة يقدرون بنحو 125 مليون شخص في العالم وأن أغلب هذه الأمراض نتيجة الاكتئاب والتوتر والخوف. وهذا لأن العالم أصبح مريضاً بالأنانية وعدم العطاء.
وسعادة العطاء هي علامة السواء النفسي بينما النفس المريضة لا يمكن أن تعطي أو تحب، فمن يرى الجائع ولا يشاركه خبزه وطعامه هو مريض، ومن يرى دموع المساكين ويمكنه أن يمسحها ويزيل آلامهم ولا يفعل ذلك أيضاً مريض، ومن ينهش في ثروات الوطن وهو يعلم أن هذا سيجعل الملايين أكثر فقراً يقيناً مريض، ومن يغلق بابه وهو يرى الآخر في احتياج له يكون بلا إنسانية ومريضاً أيضاً. واستنارة الإنسان من الداخل مرتبطة بالعطاء، وجمال الإنسان الداخلي مرتبط بالعطاء.
وفي تاريخ الأدب الروسي توجد قصة في غاية الأهمية بطلها الأديب العظيم اتولستوى صاحب رواية االحرب والسلام الشهيرة وقد كان شابا غنياً ولكنه كان دميماً، فملامح وجهه ليست جميلة حتى إنه حاول الانتحار في شبابه ولكنه كان عبقرياً أيضاً حتى قال عنه أحد المؤرخين اكان له عقل بارع الجمال في جسم بالغ الدمامةب. ولكنه صار أديباً مشهوراً وغنياُ حتى صار نجاحه الأدبي يغطي على دمامة وجهه. وتزوج وهو في الثلاثينيات من زوجته صوفيا الجميلة وأنجب ثلاثة عشر ابناً وازداد في الغنى وعاش أربعين عاماً مع زوجته وأولاده في سعادة شخصية. ولكنه قد اكتشف بعد هذا العمر أن السعادة ليست في الاستحواذ بالخير والأموال بل في العطاء فخرج يوزع أمواله على الفقراء وترك قصره وصار يعيش مع المعدمين ويعمل معهم في الحقول ويكسب قوته من عمل يديه، ولكن زوجته صوفيا اتهمته بالجنون وصارت تشكو زوجها الذي صار مجنوناً من وجهة نظرها لأنه أراد أن يشارك الفقراء أمواله ويشاركهم حياتهم. وكانت اصوفياب تخاف من أن يوزع كل أمواله وتعدم هي وأولاده من الأموال. واحتدم الأمر بينهما حتى ترك «تولستوى» المدينة وأخذ القطار دون هدف واضح وعاش في العراء وكان في الثمانينيات من عمره هرباً من زوجته التي رفضت أن يعيش حلم الإنسانية السعيدة بالعطاء للآخرين. ولم تحتمل صحة الأديب العجوز حياة العراء فأصيب بالتهاب رئوي ومات عام 1910 وسط الفقراء. وصار حلم اتولستوىب مجرد حلم يتحطم على صخرة القلوب الحجرية التي ترفض العطاء وسعادة الآخرين.
تلك هي مأساة الإنسانية العيش لأجل الذات وعدم الشعور بالآخر في آلامه وتعبه. وهذا ضد رؤية اللـه في خلقته، فلقد خلق اللـه الكون مثل سيمفونية موسيقية كل منا حرف فيها وتلك الحروف الموسيقية تكون سيمفونية الحياة، فالحرف الموسيقي خارج السيمفونية لا يعني شيئاً مهما يكن أهميته ولكنه يظل مجرد صوتا بلا معنى إلا إذا دخل في هذا المؤلف الموسيقي الرائع الذي أبدعه الخالق. وتلك الغاية المختفية عن أعين الذاتيين والجشعين هي أن الوجود كله له غاية مهمة ويمكننا أن ندركها ونعملها ولا نعيش لذواتنا.
وفي عام 1890 انتحر فنان من أعظم فناني عصره وهو الفنان العظيم افان جوخ«، وكان إنسانا مرهف المشاعر نبيلاً وعاش فقيراً جداً. وكان يمكن أن يكون أحد الفنانين الأغنياء لو فكر في رسم صور النبلاء والرؤساء وتزيين القصور. ولكنه كان يسعى أن يكون مع الفقراء يعبر عنهم في لوحاته ويحاول أن يرسم السعادة على وجوههم بوجوده معهم. وظل حياته كلها وسط العمال والفلاحين والفقراء يحاول أن يخفف عنهم آلامهم. وحاول بيع لوحاته بأي ثمن ليوزعها على هؤلاء المعدمين ولكنه فشل. وحين وجد أنه لم يستطع أن يفعل شيئاً لهؤلاء الفقراء انتحر وهو في السابع والثلاثين من عمره ليكون صرخة في وجه هذا المجتمع الأعمى الأصم الذي لم يرى ولم يسمع أنين الفقراء والمساكين. والغريب أن الآن لوحات افان جوخب تساوي ملايين الدولارات.
عزيزي القارئ كن إنساناَ تعطي الآخرين سعادة تشعر بالسعادة، وإن لم تستطع أن تعطي أمورا مادية، فأعط حباً، أعط مودة أعط من إنسانيتك إنسانية وتأكد أنك ستصير أكثر سعادة، فيقول المثل الصيني: اإن اليد التي تقدم الورود لابد أن يعلق بها قليل من عبيرهاب.
كاهن كنيسة المغارة -الشهيرة بأبي سرجة الأثرية