المدن مثل البشر.. تقع في غرام إحداها من أول نظرة وتكره أخري ولو بعد ألف نظرة.. هناك مدينة تحلم بها حتي وإن لم تدخلها.. وأخري تفر منها وفيها كل ما تشتهي.. والإنسان ابن بيئته.. ومن تربي خلال الخمسينات في أحياء شعبية يعرف معاني الجدعنة والرجولة وحب المكان.. ومن عاش في مدن أو قري ريفية.. قانونه الأصالة والأصول لا يتجاوزها وإن قبض علي الجمر.. ومن ساقته الأقدار إلي الصحاري والبراري والمتسع.. يجد نفسه متأملا شاعرا.. فيلسوفا.. ومن نبت في العشوائيات لن يكون في سلوكه إلا عشوائيا.
ولدت في منشية الصدر علي حدود حدائق القبة.. ثم انتقلنا إلي الخانكة والجبل الأصفر.. ثم عشت فترة العزوبية في الدقي في المملكة التي كان يرأسها محمد علي كامل ومعه الإمام الكبير سعدالدين شحاتة وكانت تضم في عضويتها الكثير: يحيي قلاش. فتحي محمود. محمود عبدالوهاب والخبير الاقتصادي معتصم راشد وغيرهم.
ثم بدأت حياتي الزوجية في عين شمس.. وبعدها انتقلت إلي 15 مايو.. وكان التليفون الأرضي وقتها حلما لا يحصل عليه إلا فئة بعينها.. وفرته لي نقابة الصحفيين حتي أني أخذت التليفون والشقة خالية ووضعته علي برميل.. شقتنا في مايو شهدت ميلاد غرفة مكتبي واحتضاني للكتب من حولي.. وبمناسبة الكتب فإن الغرام بها يأتي علي مراحل في الأولي أن تحب أن تقتني كل ما يصادفك من كتب من باب "القنزحة".. ثم تبدأ في مرحلة ثانية البحث عن كتب سمعت عنها ولم تقرأها.. ثم في الثالثة تختار وتنتقي.. ولذلك استغنيت عن مئات الكتب لمركز شباب الخانكة حملتها سيارة نقل واحتفظت لنفسي بالقليل شاركتني فيها الفئران ومطاردات زوجتي كأني "سريح" وهي البلدية.. فالكتب تزحف علي أرجاء البيت وقد تجدها في الثلاجة والبوتاجاز وفي الحمام وحياتك.
أعجبتني حلوان دون غيرها ومن عام 1984 لم أغادرها حتي بعد أن انتقلت من شقة إلي أخري وأحببت المنصورة وتحديدا طلخا فقد كان حمايا رحمه الله يمتلك شقة في مدينة السماء وكانت أقرب للمنتجع.. أهرب إليها من الزحام.
وعندما كنت أكتب مسلسلا بعنوان "لعبة القرية" عن حياة الصيادين ومعاناتهم كتبت مشهدا لصياد.. يبيع السمك الطازج الذي يصطاده بينما يأكل هو وأولاده السمك المجمد المستورد لأنه أرخص.. ولما ذهبت ذات مرة إلي المنصورة.. أردت أن أعايش حياة الصيد علي الطبيعة ولبست جلابية واتجهت إلي بحيرة المنزلة مرورا بالمطرية وأنا مغرم بالتفتيش في المدن والتجوال.. وزرت السوق في المنزلة ووجدت ما كتبته في خيالي موجودا علي أرض الواقع.. ورغم جلبابي إلا أن أهل البلد أدركوا أني من الغرباء كشفتني أوراقي وكتبي ونظارتي وأنا أجلس في أحد المقاهي وفررت سريعا.. ولعب بطولة المسلسل معالي زايد وأحمد بدير وحمدي أحمد وأحمد راتب وأحمد خليل وحسن مصطفي وسميرة عبدالعزيز ونهلة سلامة وفتوح أحمد وشوقي شامخ.. وكنت أنزل بالجلباب أتابع المسلسل مع الجمهور علي المقهي.. هم يتفرجون علي التليفزيون وأنا أتفرج عليهم!