التحرير
أحمد الصاوى
دفاتر يناير.. «إنصاف» منصور حسن
عبر المرحوم منصور حسن على السياسة فى مصر عبورًا سريعًا مرتين، الأولى حين كان فى قلب مطبخ الرئيس السادات، قريبا منه وصاعدا فى نظام حكمه، ومحاولا استغلال هذا القرب فى ضبط نموذج الدولة المستبدة، وتحويل الانفتاح السياسى الذى قرره السادات فى أواخر عهده إلى واقع حقيقى.



لكن شبابه وحماسه ودرجة اقترابه وصلاحياته كوزير لشؤون رئاسة الجمهورية، وما أشيع عن تجهيز السادات له لمواقع أعلى، وضعه على "لوحة نيشان" مُستهدَفًا من الدولة التى جاء حسن من خارجها ليحاول تغيير قدر من ثقافتها وأسلوب تعاطيها مع الحكم.

ثم عاد الوزير الشاب كهلًا مع تفجر ثورة 25 يناير، ليمر مرورًا آخر، حاول خلاله أن يشارك فى ضبط ما كان يصفه بـ"فوران الثورة"، فكان رئيسًا للمجلس الاستشاري الذى شكّله المجلس العسكرى لمعاونته، ثم وجد أنه من المناسب أن يطرح نفسه كمرشح رئاسى.

يومها هاتفته ضمن مكالمات كثيرة بيننا، لأبدى انزعاجًا من خبر ترشحه، ومما تردد عن اختياره لواءً متقاعدًا نائبًا له فى حملته الرئاسية ودخل فى صدامات مبكرة مع جمهور الثورة، مما قد يؤثر على فرص فوزه أو التوافق عليه كرئيس.

لكنه كان يعتقد أن مصر لا تحتاج لرئيس توافقي كما كان يُطرح وقتها، وإنما لرئيس تأسيسي، لديه القدرة والفهم على أن يميز بين دولة ما قبل "يناير" والدولة المفترضة المطلوب بناؤها بعد "يناير"، ويؤسس لهذه الدولة عبر ترسيخ قيم وثقافة مغايرة تماما للطبيعة السلطوية للدولة التى جُبلت عليها طوال العقود الماضية.

وقتها كنت أختلف معه كثيرًا، كان خطابي زاعقًا كأنني متظاهر فى ميدان التحرير، وكان هو واعيًا لما نطلبه، لكنه يفكر فى آليات تحقيقه بحكمة شيخ روحه شابه، وتجربته مع التغيير والاحتكاك بالدولة قائمة، وقتها كان يرى كل الفصائل المحسوبة على الميدان ليس لديها رؤية محددة، لتحويل الثورة من فعل احتجاجي إلى فعل مؤسسي قادر على استثمار ثمار الاحتجاج، وتحويلها إلى سياسات وآليات مستقرة، ومن قبل ذلك بناء رؤية محددة وواقعية وقابلة للتحقق للمستقبل القريب استراتيجية أوسع للمستقبل البعيد.


قال لى إن ثورة 1919 كانت مشابهة بشعبيتها، لكنها غادرت الاحتجاج إلى المؤسسة، وانبثق منها حزب الوفد التاريخي كجامع للتيار الرئيسى المؤمن بأهداف هذه الثورة، والذى يستمد نفوذه وقوته من مشروعها، وبالتالى تحمل مسؤولية هذا المشروع حتى ترجمه فى اتفاقات مبادئ مع الاحتلال بالاستقلال، ودستور تاريخى فى 1923.


لكن ميدان التحرير تفرق شيعا وقبائل. فالسياسيون التقليديون الذين تربوا فى دولة مبارك، هم الذين تحركوا مؤسسيا لجني مكاسب الثورة، والثوار بقوا فى الميدان معتقدين أن السياسة مظاهرة أو اعتصام، لذلك لم يخرج من رحم الميدان ما يمكن أن تقول إنه مؤسسته أو حزبه أو المدافع عن مشروعه.

كان يؤخذ على الأعلى صوتًا فى المحسوبين على الثورة، فكرتهم عن الإصلاح والتثوير التى لا تتجاوز الإطاحة بهؤلاء الذين كانوا محسوبين على النظام القديم مهما كانت كفاءتهم، وتثبيت آخرين، ولاؤهم للميدان أيضا مهما كانت كفاءتهم.

بعد الثورة بأسابيع محدودة دخل طلاب كلية الإعلام مدعومين من بعض الأساتذة فى موجة احتجاجات لعزل عميد الكلية الدكتور سامي عبد العزيز، كنت أشاهد معه التليفزيون فى بيته فى زيارة عابرة، وهو يشاهد مناظرة بين أستاذين أحدهما مؤيد لبقاء العميد والآخر معارض لاستمراره، وعدد من المداخلات الهاتفية والجميع يشيد بالكفاءة المهنية للرجل لكن يؤخذ عليه موقفه السياسى وانتماؤه للحزب الوطنى وآراؤه العامة السابقة للثورة التى كان يطرحها فى مقالات صحفية أو لقاءات تليفزيونية، مثل أغلب القيادات الجامعية فى ذلك الوقت.

سألني:" هل نحتاج فى مؤسسة تعليمية إلى سياسى أم مهنى؟" وعاد ليقول لى بتعبير شبابي دارج : "هذه الثورة هتلبس فى الحيط إن استمرت فى التفكير بهذه الطريقة"، ذات الأمر حين حاول طرح اسم القانونى البارز د.مفيد شهاب لإحدى المهام التى تحتاج إلى ضبط قانونى فيما يخص بناء استراتيجية للتعامل مع سد النهضة الإثيوبي، فإذا بغالبية تهتف فى وجهه: "فلووول"، دون محاولة للتفريق بين رجل القانون المهنى المطلوب فى قضية، ورجل السياسة الذى أخطأ أو شارك بنصيب فى تزيين الخطأ.

حائط التصنيف الغارق فى الحدية، والراغب فى إقصاء واستئصال كل من كان له علاقة بنظام استمر 30 عاما ومن قبله 30 عاما أخرى متشابهات فى منطق الحكم، خلق ارتباكا زائدا، وتوجسا مجتمعيا فى كل بيت، وفتح الباب لمزايدات أصعب، وفتح المعارك فى كل قرية وحى ومصلحة حكومية صغيرة، مما زاد عدد الخائفين من الثورة، والمتضررين منها على القطاعات التى تضررت أصلاً بالفعل الاحتجاجي المستمر.

حاول منصور حسن أن ينمى فضيلة "الإنصاف" فى التفكير السياسى، والإنصاف سياسيا لا يمكن أبدا أن يكون بتغيير الوجوه بوجوه أخرى لتغيير الولاءات فحسب، لكن بتغيير "السيستم" والاعتماد على الكفاءة وفقط، ووضع نظام لا يسمح بتكرار الأخطاء السابقة.

لم تكن الثورة فى ذهنه أن أحل محل السابق لأمارس نفس أفعاله، وألعب بذات قواعد لعبه، وعلى ذات "السيستم" السلطوى للدولة.

لذلك لم يجد الناس فوارق حقيقية بين ما قبل "يناير" وما بعده، وعلى العكس جاءت بعض المقارنات فى صالح ما كان قبل "يناير"، حتى إن الناس باتوا يتذكرون بالخير كفاءة من كانوا فى الماضى القريب يلعنونهم، لأنه كما قال منصور حسن "الثورة لبست فى حيط" وغاب عنها المشروع البديل، غرقت فى المزايدات وتصفية الحسابات وتصنيف الناس تصنيفات غارقة فى الحدة، وتراجع الإنصاف، وضاعت الطاقة فى احتجاج متواصل جرى تشجيعه، فإذا به أول عوامل تنفير الناس من الثورة.

وتحول الصراع من البحث عن تأسيس جيد لدولة جديدة، تتحدد فيها كل القواعد مسبقا، إلى صراع شرس على السلطة بكل ما فيه من ألاعيب ودعاية وتجاوز وحدة وتطرف، وتصور بعض القائمين عليها إن مجرد سكنهم فى منازل الذين سبقوا هو قمة الإصلاح، وهذا كان الإخفاق الأعظم.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف