ماذا تقول عن مدير مصنع يدير دولاب العمل بنفس رؤية وانحيازات مدير سابق عليه تفجرت ضده الإضرابات العمالية فى يومٍ ما، ولأنه يخشى تكرارها يتفتق ذهنه عن أن الحل الناجع يكمن فى مضاعفة إجراءات الأمن فى ذلك اليوم من كل عام على وجه التحديد؟!
أبسط ما يقال عن ذلك الإجراء إنه محاولة، محكوم عليها بالفشل، لمنع تكرار الانفجار دون تغيير الأسباب التى تؤدى إليه.
كثيرون يفسرون خروج الشعوب العربية فى أيام جُمع الغضب التى انطلقت لتصنع ما يسمى بثورات الربيع العربى بأنها كانت مؤامرات غربية مخابراتية صهيونية تمت لتقسيم أوطان المنطقة. لكنهم يتجاهلون ويسقطون من حساباتهم تماما أن كل أوطان منطقتنا العربية التى اشتعلت فيها النيران بضراوة كانت مشبعة بوقود غياب العدالة واستشراء الفساد، ولم يكن إشعال حريق عارم فى ميادينها يحتاج لأكثر من شرارة صغيرة. نحن أيها السادة نعيش فى مجتمعات يحكمها قانون التزاوج بين السلطة والفساد، وتغيب عنها أبسط حقوق الإنسان فى الحصول على احتياجاته الأساسية، وترتع فى جنباتها طائفية بغيضة تضرب بجذورها فى بيئة خصبة يوفرها لها الفقر والجهل وغياب العدل وامتهان الكرامة.
المؤامرات لم يصنعها أعداؤنا، بل يصنعها حكامنا. الثورات تصنعها مقدمات وأسباب ولا تخلقها مؤامرات. لا يوجد إنسان يخرج من داره لكى يموت إلا عندما تتساوى لديه الحياة مع الموت. أغلب الخائفين يصدقون الأكاذيب التى يروجها الحكام بأن هناك مأجورين يدفعون الناس إلى الثورة. هذا التفسير المضحك والمخجل يفترض أن العوام عرائس ماريونيت تفتقر إلى الإرادة الإنسانية. لا تحركها أحلام، ولا تردعها مخاوف، بل يمكن لأى عابر سبيل أن يمسك بخيوطها ويطلقها فى الطرقات. البعض الآخر من أصحاب تلك النظرية يتقوقع فى جزر تنعزل عن مجتمعه الذى يعيش سواده الأعظم تحت خط الفقر فى ظروف لا تخطر له على بال.
يتكاثرون كالموتى الأحياء فى عشوائيات ربما يلمحها من نافذة سيارته ولكن خياله لا يمكن أن يدرك بشاعة ما يدور فى أعماقها من قهر وتشويه للروح والجسد. فى مجتمعات كتلك تتشبع الأرض بالوقود وتتراكم أسباب اندلاع الحرائق وتبتعد الثورات عن سلميتها يوماً بعد آخر عندما يتمكن اليأس من النفوس ويصبح الأمل فى غد أفضل حلماً مستحيلاً. أشد الثورات تدميرا للأخضر واليابس تأتى بعد إغراق الكادحين فى آمال مراوغة، ومقايضة أمنهم بلقمتهم، واستنزاف آخر ما لديهم من تضحيات لا يقدمها أحد غيرهم.
لا جدوى من تسمية الثورة بالمؤامرة، ولا نفع أيضا من الاعتراف بها بكلمات جوفاء دون تحقيق طموحاتها، ولا قيمة لمحاولة إلغاء تواريخها ونزعها من أوراق التقويم.
فى القرن الثامن عشر توصل الكيميائى الفرنسى لافوازييه إلى اكتشاف قانون بقاء الكتلة الذى أثبت بالتجربة أن المادة لا تفنى ولا تخلق من العدم. فمتى يفهم حكامنا قانون بقاء الثورة الذى تؤكد التجربة الإنسانية أنها لا تفنى طالما استمرت أسبابها التى لا يمكن أن تخلقها المؤامرات من العدم؟
سيظل بعبع الخامس والعشرين من يناير باقيًا ليرعب الحكام طالما بقيت أسبابه. تحقيق مطالب الثورات هو الشىء الوحيد الذى ينزع فتيلها. أمر حتمى أن تندفع الفراشة نحو النار. من الفراشة؟ وما النار؟
كلٌ يمتلك إجابة تختلف تبعًا لموقعه الذى يرى منه الحدث.