لماذا نغضب حين نستمع إلى مسئول يتحدث إلينا فى مناسبة عامة أو فى أمر يحتاج الحديث فيه إلى لغة سليمة مستقيمة واضحة نفهمها
بيسر ونستطيع أن نتحاور معها ونناقش ماجاء فيها ـ لماذا نصدم حين يفاجئنا هذا المتحدث المسئول بلغة لاتعبر عن شعور بالمسئولية ولاترقى إلى ماكنا ننتظره ونتوقعه؟ فهو إن تحدث بالفصحى جمجم وغمغم وتأتأ وفأفأ وخرج من خطأ فاحش ليقع فى خطأ أفحش. فإن تهرب من الفصحى وتحدث بالعامية، خلط بين لغة البيت ولغة السوق فلم نعد نجد منطقا نربط به بين فقرة وفقرة أو بين عبارة وأخري، ولم نعد قادرين بالتالى على أن نتلقى رسالة أو نمسك معنى محددا!.
ولا أظننى مبالغا إذا قلت إن معظم ما أصبحنا نسمعه من معظم المسئولين ينطبق عليه ما ذكرته. فنحن لانواجه حالة فردية تشهد على نفسها، وإنما نواجه ظاهرة عامة تشهد علينا جميعا وتثير غضبنا حتى ولو كانت معرفتنا باللغة محدودة.
لماذا تثير هذه اللغة المكسرة القبيحة غضبنا حين يتحدث بها شخص مسئول ولاتثير غضبنا بالقدر ذاته حين نسمعها من تلميذ خائب؟
إنها تثير غضبنا حين يتحدث بها المسئولون لأن اللغة ملكية عامة ورابطة جامعة وتعبير عن شخصيتنا القومية. والأمة لاتكون أمة إلا بلغة توحدها وتحفظ تراثها وتعبر عن نظرتها للعالم وللوجود كله. فاللغة ليست مجرد إشارت أو علامات. ولكنها صور وأفكار ومعتقدات ومشاعر. اللغة لاتسمى الأشياء فقط، ولكنها تجسدها وتعطيها معنى ووظيفة. وبهذا تختلف اللغات وتتمايز الأمم التى تعرف أول ماتعرف بلغاتها. وهل كان باستطاعة الفرنسيين أو الانجليز أو الروس أو اليابانى أن يتحدوا وينشئوا الأنفسهم دولا وطنية مستقلة إلا بروابط تجمعهم فى مقدمتها اللغة القومية، التى تعبر بها الجماعة الوطنية عن نفسها وتتواصل فيما بينها وتناقش قضاياها وتواجه بها أسئلة الحاضر والمستقبل؟ فإذا كان هذا هو شأن اللغة وهذا هو مكانها فابتذال اللغة القومية واستخدامها بغير ما يحق لها من معرفة وعناية واحترام ابتذال للوجود القومى وعدوان على كرامة الأمة وكرامة أفرادها.
وكما أن اللغة صورة للأمة وتعبير عنها فهى صورة للفرد وتعبير عنه فالفرد أو المرء كما يقول العرب بأصغريه: عقله ولسانه. والعقل إن لم يسعفه اللسان طاقة معطلة. واللسان إن لم يكشف عن القلب أو العقل فهو غير نافع أو غير صادق أو غير أمين. ولهذا نستمع إلى مايقوله بعض المسئولين فنجد أنفسنا غير مصدقين. لأن اللغة التى يتحدثون بها ليست فى أفواههم أداة طيعة. وانعدام طواعيتها دليل على انعدام صدقها. ونحن نعرف المثل السائر القائل «لسانك حصانك». فاذا لم يروضه صاحبه بحيث يتمكن منه ويتحكم فيه فهو ليس له. وكلامه إذن ملفق مفتعل لانستطيع أن نصدقه أو نطمئن إليه.
وإذا كنا نضيق بالخطأ وباللغو إذا وقع فيه أو انساق مواطن عادى فنحن نضيق به أكثر ولانطيقه ولانتسامح معه حين يقع فيه الشخص المسئول. لأن المواطن العادى يتحدث ليعبر فى أغلب الأحيان عن نفسه، أما المسئول فهو حين يتحدث إلينا يتحدث فى أمور تهمنا ويعبر عما يعتقد أنه مصلحة الأمة أو سياسة الدولة. وهو بهذا رمز يشير إلينا ويدل علينا. ومن هنا الشروط التى يجب علينا أن نراعيها فى اختيار المسئول ويجب عليه أن يراعيها فى أقواله وأعماله وفى سلوكه وتصرفاته.
وأنا أعرف كما نعرف جميعا أن اللغة مشكلة من مشكلاتنا الكبري، نعانيها جميعا مسئولين ومواطنين، ونتوارثها جيلا بعد جيل، لأنها مشكلة قديمة مركبة.
منذ فقدنا استقلالنا فى العصور القديمة وخضعنا لحكم البطالمة المقدونيين أصبحنا نعيش بلغتين: لغة الحكام اليونانية وهى لغة الإدارة والثقافة، ولغتنا نحن المحكومين المصريين. وقد بقيت هذه الثنائية اللغوية وازدادت تعقيدا حين دخل العرب مصر فأضيفت العربية إلى المصرية واليونانية. ثم حلت الأولى محل الأخيرة فى الدواوين. ثم حلت محل المصرية بعد أن انتشر الإسلام وأصبح دين الأغلبية وانقسمت على نفسها فأصبحت لغتين أو لهجتين، الفصحي، وهى لغة الدين والثقافة. والعامية وهى لغة الحياة اليومية، فى القرى والمدن. وهذا هو الوضع الذى ورثناه وحاولنا خلال القرنين الأخيرين أن نعالج سلبياته.
نحن لم نرث لغة تحولت إلى فصحى وعامية، فحسب، وإنما ورثنا فصحى تخلفت فى عصور الانحطاط وانعزلت وأصبحت لغة شعائر ونصوص دينية محظوظة، وعامية ابتعدت عن الفصحى وأصبحت لغة أخرى أو تكاد.
وقد حاولنا بالطبع أن نعالج هذا الوضع حين بدأنا نهضتنا الحديثة فنجحنا أحيانا وفشلنا أحيانا.
استطعنا أن نتصل من جديد بتراث الثقافة العربية فى عصورها المزدهرة، وأعدنا الحياة للشعر والنثر، وأضفنا للفنون الموروثة فنونا جديدة مقتبسة، وترجمنا من العصور الحديثة وعلومها الإنسانية والطبيعية، وحققنا بذلك أمرين: الأول هو إحياء الفصحى التى لانملكها وحدنا، والآخر هو تمصير الفصحى أو إنطاقها بلسان المصريين وتزويدها بفنون وآثار وأساليب وأدوات تخصنا وتنسب إلينا من حيث إننا أمة لها حضارتها وماضيها وحاضرها وتقاليدها ومطالبها التى تختلف بها عن غيرها من الأمم والجماعات العربية الأخري.
ولقد بدا فى بعض المراحل، خاصة فى النصف الأول من القرن الماضى أن الفصحى نهضت وأنها تتقدم كل يوم وتكسب أرضا جديدة وتفرض وجودها على العامية، التى أخذت ترتقى وتجرب نفسها فى المجالات التى كانت مقصورة على الفصحي، والفصحى تستجيب لمطالب الحياة اليومية وتتمكن من مخاطبة المواطن العادى فى السياسة وفى الفن وفى الاعلام. فالفصحى حاضرة فى النشاط الحزبي، وفى البرلمان، وفى دواوين الحكومة، وهى حاضرة فى المسرح والأغنية والصحيفة والكتاب.
غير أن هذه المرحلة لم تطل للأسف. لأن النشاط السياسى توقف. والمنابر التى كانت تهتز لما يقوله سعد زغلول، وهيكل، وعباس العقاد، وعزيز فهمي، ومحمد مندور أصبحت مقاعد محجوزة للمصفقين والراقصين. والتعليم تراجع. والطبقة المثقفة التى كانت تقدم النموذج وتراقب وتحاسب وتصحح لم يعد لها وجود. والنتيجة هى مانراه فى هذه الأيام.
العامية اكتسحت الفصحي، والصغار أصبحوا هم الكبار، والمعلمون يحتاجون لمن يعلمهم، والإعلام ينشر الأمية، والسيد السند يعجز عن قراءة خطبة مكتوبة!