الجمهورية
عبد العال الباقورى
قبل أن نطالب غداً بما رفضناه أمس!
كم تبدلت وتغيرت بل وانقلبت أهداف العرب في وطنهم العربي؟ فهل سيصل بنا الأمر إلي أن نطالب غداً بما رفضناه أمس. وما كنا نرفضه إلي سنوات قريبة مضت. حسبما توقعه أبا إيبان وزير خارجية الكيان الصهيوني في ستينيات القرن الماضي.. إذا أردنا أن نصارح أنفسنا ولا نغالطها فإن هذا يوشك أن يقع. ونحن شاهدون. وناظرون ومنتظرون. بل إن بعضنا يشارك في هذا. وربما لا يدري أنه لن يكون بعيداً مما سيحدث. ومما يشارك بكل أسي في حدوثه. فإلي وقت غير بعيد. إلي سبعينيات القرن الماضي فقط كنا نريد ــ أو بعضنا علي الأقل أو أغلبنا ــ تجاوز اتفاق سايكس ــ بيكو البريطاني ــ الفرنسي. الذي أبرم بليل ومن وراء ظهر العرب وعلي العكس من وعود بريطانية للعرب. قبل مائة عام من عامنا هذا. وتحديداً في مايو 1916 وفيه تم تقسيم ما تبقي من الأرض العربية تحت حكم الدولة العثمانية إلي بدء الحرب العالمية الأولي. في عام 1914. وبناء عليه منحت "عصبة الأمم" المنظمة الدولية القائمة عندئذ. بريطانيا الانتداب علي العراق وشرق الأردن وفلسطين. التي تضمن صك الانتداب عليها بنداً خاصاً بتطبيق "وعد بلفور" بإقامة "وطن قومي" لليهود. بينما تولت فرنسا الانتداب علي سوريا ولبنان.
وكان إنشاء الكيان الصهيوني في 1948 عبارة عن إقامة حاجز بين جناحي الوطن العربي. ومنذ علم العرب بأمر هذا الاتفاق. قبل أن تضع الحرب العالمية أوزارها. أصبح من أهدافهم الثابتة اسقاطه وتجاوزه. بالخلاص من الاحتلال البريطاني والفرنسي. الذي حمل اسم الانتداب. ونادوا بأهداف قومية مختلفة. ولكنها دعت إما إلي توحيد بلاد الشام أي سوريا ولبنان والأردن وفلسطين. أو توحيد سوريا والعراق.. فضلاً عن الدعوة إلي وحدة عربية شاملة تضم أقطار المشرق والمغرب العربي.. وذلك تاريخ طويل. فصوله متعددة. وأفكاره وقياداته أيضا.. وعلي النقيض من ذلك. أصبح المطروح منذ سنوات. خاصة منذ عام 2003. عام غزو العراق واحتلاله هو تجاوز سايكس بيكو ولكن بأسلوب يقسم المقسم ويجزئ المجزأ. طبقاً لأسس طائفية وعرقية ومذهبية وبحيث يصبح البلد أو الكيان الواحد من كيانات سايكس بيكو اثنين أو ثلاثة أو حتي أربعة كيانات.. وهنا تعددت خطط وخرائط التقسيم والتوزيع. وتداخلت حدودها ومعاييرها إلي أبعد الحدود. ومنذ 2003. بل ومن قبل. أصبح هذا الحديث مركزاً بشكل خاص علي العراق. وتباري كبار الساسة والاستراتيجيين والمفكرين الأمريكيين في طرح الأفكار والخرائط. وأسهم الكونجرس الأمريكي ولجانه بدور كبير في هذا الشأن وأصبح من الشائع. بل ومن المتفق عليه أمريكياً أن العراق يجب أن يقسم إلي ثلاثة كيانات. وأصبح من الشعارات والأهداف الأمريكية أخيراً أنه من المستحيل أن يعود العراق وسوريا إلي ما كانا عليه من قبل. وقيل هنا صراحة ان "الشرق الأوسط الذي نعرفه انتهي إلي غير رجعة".. وقد سبق أن تناولت "خواطر عربية" ذلك في الثاني من نوفمبر الماضي بعنوان: "تنبهوا واستفيقوا أيها العرب" وأوردت تصريحات وأفكاراً أوروبية وأمريكية تصب في مجري التقسيم والتفتيت العربي. مما لا يوجد داع لتكراره اليوم.
البرزاني والدولة الكردية
وتجب الإشارة إلي أن ما ذكر من قبل في نوفمبر الماضي. وما قد يستكمل اليوم. لن يستطيع أن يحصي بدقة جميع خطط وأفكار وخرائط إعادة تقسيم الوطن العربي. التي تأتي العودة إليها مجدداً بمناسبة تصريح للسيد مسعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق حول سايكس ــ بيكو وإخفاقه. والدعوة إلي بديل له. وليس في الأمر جديد كثير في هذا التصريح. لأنه ليس الأول من نوعه علي لسان البرزاني ومن لف لفه من أكراد العراق. ولكن الجديد حقاً هو تفصيلات في نص التصريح. فضلا عن الظروف التي أطلق فيها. وضرب موعد لقيام "دولة كردية مستقلة" في شمال العراق.. ففي حديث نشرته صحيفة "الجارديان" البريطانية يوم السبت الماضي. 23 يناير الحالي. قال البرزاني مايلي:
* أظن أن جميع قادة العالم يعرفون في سريرة أنفسهم أن حقبة اتفاقية سايكس ــ بيكو قد انتهت. وسواء أعلنوا هذا أم لا. فإنه الأمر الواقع علي الأرض. وكما تعرفون فإن الدبلوماسيين محافظون قليلاً. وهم يعطون تقويمهم في مراحل متأخرة عن هذه المسائل. وأحياناً لا يمكنهم مجاراة التطورات.
* استمرار الوضع الحالي سيؤدي إلي المزيد من التفكك والدمار في المنطقة.
* استقلال إقليم كردستان أكثر قرباً من أي وقت مضي. والدول المعارضة باتت أكثر اقتناعاً بأن السيادة ضمن حدود سلطات إقليم كردستان ستكون لصالح المنطقة.
* العراق مقسم فعلاً. ونحن غير مسئولين عن ذلك. علي العكس لقد بذلنا قصاري جهدنا للحفاظ علي وحدة العراق الديمقراطي.. ان عدم توحد الثقافات في العراق لا يشجع علي التعايش معاً.
* المواقف الاقليمية تغيرت إلي درجة كبيرة إن استخدم مفردتي الكرد وكردستان كان محظوراً في تركيا. في الشهر الماضي ذهبت إلي تركيا في زيارة. وكان علم كردستان يرفرف في القصر الرئاسي.
ولعل خلاصة ذلك كله قد عبر عنها أحد الناطقين باسم البرزاني بقوله: "إن الحدود التي رسمتها سايكس ــ بيكو قد انتهت. وان الحدود الجديدة ترسم بالدم. وهنا تبدو فوق سطح الأحداث متغيرات مهمة في خريطة العراق منذ استيلاء "داعش" علي مدينة الموصل. وانتهاز إقليم كردستان العراق في الاستيلاء علي مدينة كركوك المتنازع عليها وعلي سنجار وعلي مساحات كبيرة أخري من الأراضي العراقية. وما صاحب هنا ويتلوه من توثيق العلاقات بين البرزاني وأمريكا من ناحية وتحسين العلاقات مع تركيا من ناحية أخري. والقيام في الوقت نفسه يطرد سكان عرب من شمال العراق. مع محاولة تحسين العلاقات وتوثيقها مع دول عربية أخري! فهل يصل الأمر إلي أن يطمئن رئيس إقليم كردستان العراق إلي ضمان موافقة هذه الدول علي استقلال كردستان؟ وإن حدث هذا. فماذا بشأن تركيا؟ هل يمكن أن تقبل هذا الاستقلال؟ وما موقفها من مواطنيها الأكراد؟
حسابات ومستقبليات
في الأفق احتمالات كثيرة. وخيارات معقدة لا تزال تجعل من "استقلال كردستان" مسألة شائكة عراقياً وإقليمياً ودولياً. وهل أصبحت أمريكا لا تتردد ولو قليلاً في الدفع في هذا الاتجاه أي استقلال كردستان. وهنا فأي كردستان تعني: كردستان العراق فقط؟ أم "كردستان أمة في شقاق" موزعة بين أربع دول هي تركيا وإيران والعراق وسوريا. فما بالنا وأن هناك أيضا شقاقاً كردياً ــ كردياً. سواء بين أكراد وشمال العراق. أو بين الأكراد في البلاد الأخري. مما يجعل من الصعب أن "يغامر" السيد مسعود البرزاني بإعلان الاستقلال ــ بناء علي مشورة لجنة قام بتكوينها ــ بصرف النظر عن مواقف القوي المعارضة له في كردستان العراق. وهي قوي ليست ضعيفة. وقد تفضل التأني أكثر في الأخذ بهذا الخيار الذي ستكون له نتائج عراقية وإقليمية خطيرة. لا يرحب بها ولا يستفيد منها سوي الكيان الصهيوني الذي أقام علاقات وثيقة مع الأكراد خاصة البرازانيين منذ أواخر القرن الماضي. وتزايدت أكثر في ظل الغزو والاحتلال الأمريكي للعراق.
ويري البعض أن قيام دولة كردية شمال العراق أصبح مسألة وقت في حين يستبعد آخرون ذلك. ويشيرون إلي السيد مسعود البرزاني نفسه أعلن من قبل أنه سيطالب بالاستقلال في الأول من يوليو 2014. وفجأة ظهرت داعش واستولت علي منطقة واسعة من العراق. وهددت باحتلال أربيل عاصمة كردستان شمال العراق فماذا يمكن أن يؤجل مثل هذا القرار مرة أخري. فالاحتمالات مفتوحة ولكن الخيار وحيد. أما المسئوليات فمتعددة سواء علي القوي السياسية العراقية أو علي الدول العربية الأخري. أن استقلال كردستان العراق حين يحدث سيتلوه غالباً انفسام باقي العراق إلي كيانين يوصف أحدهما بأنه سني والآخر بأنه شيعي؟ وعندئذ ستهب الرياح علي دول الجوار بدرجات وأشكال مختلفة وواهم من يظن أن العاصفة لن تتصاعد وتنتشر وتمتد.
"العروبة الجديدة" حبل إنقاذ
كل من لديه شك في هذا عليه أن يراجع خطط وخرائط تقسيم الوطن العربي التي جري الحديث عنها منذ منتصف القرن الماضي. ثم تزايد وتكثف في أواخر القرن. وأصبحت "السيناريوهات" شبه جاهزة ومعدة للتطبيق الذي بدأ من جنوب السودان في 2011 عام التحولات العربية التي لا نزال نعيشها. وفي هذا الشأن فإن أمامنا ثلاث دراسات منشورة في العدد الأخير من مجلة "المستقبل العربي" "عدد يناير 2016" التي تصدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت والدراسات الثلاث جزء من أوراق ندوة عقدها المركز في نوفمبر 2015 عن "مستقبل التغيير في الوطن العربي". والدراسات الثلاث تدور حول: "آليات التفكيك وظواهره في الوطن العربي" و"آثار التفكيك في الوطن العربي" و"العرب إلي أين؟ نحو خطة طريق للخروج من المأزق العربي الراهن". والدراسات الثلاث متكاملة وتكاد تتفق حول ما عبر عنه الكاتب اللبناني الأستاذ سعد محيو كاتب الدراسة الثانية بقوله:
"مشاريع الدويلات الأقوامية المذهبية والطائفية التي بدأت رويداً رويداً تشق طريقها نحو التنفيذ. لن تنجح حيث فشل ما هو أكثر تجذراً منها في التاريخ والاجتماع العربيين. فهي لن تكون قادرة. مهما فعلت. علي تجنب الحروب الدائمة بين بعضها البعض. ولا علي إقامة طبعتها الخاصة من الدولة ــ الأمة. ولا علي توفير مقومات البقاء الاقتصادي والأمني والاستراتيجي. وحتي لو نجحت هذه الدويلات في البقاء. في ظل إنتاج صيغ الحماية الاستعمارية علي الأرجح. ستكون مضطرة في مرحلة ما إلي البحث عن صيغ اتحادية في المنطقة لتوفير ظروف الحياة لها. سواء في شكل نظام إقليمي شرق أوسطي جديد "ستكون الأغلبية فيه عربية اللسان علي نحو كاسح بسبب وقائع الدميجرافيا في المنطقة!" أو حتي في شكل تكتلات إقليمية. في مرحلة ما أيضا. حين ستوغل الهويات الأقوامية ما قبل الوطنية والقومية في الوطن العربي. في توغلها وتوحشها وحروبها. وفي إسقاطها لكل مقومات السيادة والكرامة.. ستبرز من جديد وبقوة الحاجة الماسة إلي العروبة "الجديدة والديمقراطية والحضارية بالطبع" بوصفها المنقذ الوحيد من خلال حروب الدمار الشامل. وبكونها الجامع المشترك الأول بين مكونات مجتمعات المشرق العربي.. عندئذ ــ فقط ــ لن نطالب غداً بما رفضناه أمس.. واسلمي يا مصر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف