انتهي الأمر ببلاغ إلي النيابة العامة ضد الممثل المبتديء الذي سخر من بعض جنود الأمن المركزي، بفعل مهين يوم 25 يناير، علي المواقع الإعلامية تركز الأمر في أن هذا الشاب قصد إهانة وزارة الداخلية في يوم عيدها، واعتبر ذلك جزءاً من هدف بين هو إسقاط الداخلية، المدافعون عن الشاب توقفوا عند صغر سنه، حيث ذكر البعض أن عمره 19 عاماً، وزاد آخرون علي هذا الرقم عامين، ليصبح 21 عاماً.
والحقيقة أن المهاجمين والمدافعين لم يتوقفوا عند إشارات مهمة فيما قام به هذا الشاب، مثل.. ماذا عن جندي الأمن المركزي الذي تعرض للسخرية وللإهانة؟، الموضوع هنا يختلف عن الموقف عموماً من الداخلية.. هذا الجندي صغير السن تماماً مثل ذلك الشاب، سن التجنيد 18 عاماً، أي أن هؤلاء الجنود قد يكونون أصغر سناً من ذلك الممثل، وهؤلاء الجنود يعبرون عن فئة معينة من المجتمع، هم الأقل حظاً في التعليم، بمعني أن أياً منهم لم يتم التعليم الإلزامي، ربما تسرب من المدرسة ولم يلتحق بها، وربما التحق ولم يكمل التعليم، وذلك بسبب "الفقر"، نعم الفقر، هؤلاء علي الأغلب هم أفقر الفقراء، التعليم في مصر مرتبط بالفقر وبالغني، التعليم بدءاً من المرحلة الأولية -يعني أن يكون لديك ميزانية للدروس الخصوصية وللمذكرات وللكتب المساعدة، مع الاحترام الكامل لمبدأ المجانية في التعليم قبل الجامعي، الذي اتخذته حكومة الوفد سنة 1950وفي ظل وزير المعارف العظيم د. طه حسين.
هؤلاء الجنود ليسوا فقراء فقط، لكنهم علي الأغلب الأضعف في القدرات، هناك فقراء لا يتعلمون، ولكن يمكن لأسرهم أن تدفع بهم إلي تعلم حرفة ما، قد يصبح نجاراً أو سباكاً وغير ذلك، وهناك من لا يتعلمون أي حرفة، هؤلاء - تقريباً - هم جنود الأمن المركزي.
لو تابعنا الأعمال الفنية والدرامية، لوجدنا معظمها يسخر من هؤلاء الجنود، يتم تقديمهم باعتبارهم أغبياء بلهاء، أو قطيعا يؤمر ويدفع دفعاً، ربما كان الراحل عاطف الطيب هو الوحيد الذي حاول أن يتعامل في فيلم "البريء" مع هؤلاء الجنود بإنسانية وتفهم.
في الشارع هناك من يتعاطف مع هؤلاء الجنود، وفي المقابل هناك من يتعمد السخرية منهم والاستخفاف أو الاستظراف، والبعض يحاول الإهانة.
هذا الشاب - الممثل الناشيء - اشتط في الاستظراف ودخل حدود البذاءة، لكن هناك ما هو أخطر من البذاءة، هو استخفاف واحتقار الأغنياء للفقراء، واستعلاء القادر علي غير القادر، الممثل الشاب، متاح له كل شيء، مالياً واجتماعياً، وحتي أخلاقياً، إلي حد أن "الواقي" هو لعبته المفضلة، ولم يتساءل أحد، شاب صغير في مثل هذا السن كيف وصل إليه ذلك "الواقي" وفيما يستعمله، يبدو أنه معتاد عليه، واستنفد أغراضه التي خصص لها وقرر أن يحوله إلي بالونة، وفي العادة من يستعملون تلك الوسيلة يتخفون بها، حتي لو استعملوها لأسباب وبدوافع طبية، لكنها معه صارت "لعبة".. هذا شاب يملك كل شيء ويتاح له كل شيء، ويريد أن يسخر بكل شيء، وكل الناس، وأخشي القول أن هذا ليس موقفه وحده، بل موقف فئة من الناس بيننا، أتيح لهم كل شيء، فما عادوا يتطلعون إلي شيء أو يحلمون به، وما عادوا يخشون أو يتخوفون من شيء، لم يعد لهم سوي السخرية من الآخرين واحتقارهم والدخول في أجواء نفسية وعقد خاصة تصاحب هذا النوع من الرفاهية.
وتكتمل الصورة بقول أحد الجنود إنه لم يعرف، دلالة البالون الذي قدمه الشاب المستظرف، الجندي تلقي البالون بطيبة وبسعادة، لكن في اليوم التالي بعد الضجة، هناك من نبهه إلي رمزية ذلك البالون ودلالته، لاحظ كذلك أن هذا الجندي جاء من بيئة شديدة المحافظة أخلاقياً وسلوكياً، شأن زملائه جميعاً، وهنا تصبح الإهانة مضاعفة بحق، لكن لا أحد يريد أن يدرك ذلك أو يتوقف عنده. الموقف من الداخلية، رفضاً أو كراهية، هو موقف سياسي في النهاية، ومحاولة هدمها هي محاولة إرهابية، يتم التعامل معها وفقاً للقانون، أما الموقف الإنساني واحتقار فئة من الشعب والاستخفاف بها، فهو جريمة وطنية وإنسانية، لا يريد أحد أن يتوقف عندها، هذا الممثل الشاب بذيء، ولكن ماذا عن عشرات ومئات آخرين سخروا ومازالوا يسخرون من الفقراء ومن الضعفاء؟.