ليس غريباً أن تبدأ الثورة فى تونس قبل مصر، على الرغم من أن ظروف مصر أسوأ من تونس فى جميع المجالات، ولكن الوعى فى تونس أعلى رأسياً وأوسع أفقياً، نتيجة لزيادة التعليم والهجرات والاتصال الشعبى الأوسع بالديمقراطيات الحديثة فى أوروبا وفرنسا على وجه الخصوص.
وعى الجماعات الدينية نفسها فى تونس بما فيها جماعة الإخوان أكثر مرونة وانفتاحاً عقلياً من مثل هذه الجماعات هنا لنفس الأسباب التى تُزيد الوعى هناك.
الحركة الفلسفية والمعرفية فى تونس أكثر إنتاجاً وتقدماً وانتشاراً فى أوروبا مما هى فى مصر.
التونسيون على اختلاف طبقاتهم وثقافتهم عرفوا ورددوا غناء الشيخ إمام ونجم (المصريين) من سنوات بعيدة، بينما لم يُعرف غناؤهما بنفس القدر هنا فى مصر قبل ثورة يناير إلا فى الأوساط السياسية النشطة والمتمردة وأقلية من طلبة الجامعات.
هذه الأغانى السياسية الثورية مختلفة فى معناها ومبناها ودعوتها عن السياق الدارج، هى أغانى وعى بالأساس، والوعى يختلف ولا يُحصِّلُه الجميع بنفس القدر إلا بجهد فى العقل وعمل فى الفكر.
الثورة فى مصر بدأت على يد الأكثر وعياً وجهداً فى ممارسة النقد والتفكير، ومعظمهم طبقة تعمل بالمهن التى تتعلق بالمعرفة والعلوم والفكر والتكنولوجيا، جماعات مرتاحة مادياً إلى حد ما ولا تعانى -بصفة عامة- شظف العيش كغيرها، جماعات لها وعى سياسى واجتماعى، نخبة تبعتها قوى الشعب الأخرى بعد ذلك، تصوروا أن هذه الجماعة العظيمة من الشعب تعيرُ الآن أنها (نخبة) تفكر وتسعى للتقدم!!
الوعى الذى نقصده هنا هو وعى المواطن بمصالح جماعته وشعبه وبما لا يتنافى مع الحق والعدل والخير، وعيه بالحيل التى تمارس ضمناً أو علانية لاستلاب الحقوق والحريات، إدراك مبكر يستشف المستقبل لكل الطرق التى تؤدى للاستبداد والانفراد بالسلطات الثلاث دون سائر المواطنين ومن ثم ممارسة القمع والقهر على أبدانهم وحركتهم وتعبيرهم، أى على حياتهم وسعادتهم.
إن هذه الأمور لا تتم إلا باليقظة التامة والمراقبة المستمرة والتفكير المنطقى العقلانى، وهو أمر لا يتيسر لجميع المواطنين، وإنما لجماعات منهم هى التى تجهد عقلها وتنزع عن السلطويين الأقنعة وتكشف -بمسئولية تامة- عن الخطر الذى يهدد عدالة الحياة وحرياتها وسبل تطورها لصالح الجميع. إن هذه الجماعة -المُفكرة الناقدة اللاقطة اليقظة- تصبح مصدراً للقلق، قلق السلطة وقلق المواطنين أنفسهم، ومفهوم لِم تقلق السلطة، وإنما ينبع قلق المواطنين مما تطالبهم به المعلومات والأفكار التى صارت فى متناولهم بعدما عرضها عليهم أصحاب الوعى لكى يتخذوا منها موقفاً يحقق مصالحهم ويحميها، ولكن المرء لا يتحرك بسهولة فيما يحقق مصالحه الفردية خاصة فى بلاد (المقدر والمقسوم!) و(اللى مكتوب عالجبين) و(اجرى جرى الوحوش غير رزقك لن تحوش) و(كله فى الكتاب) و(أطيعوا.. .)، وربما يعوقه الكسل أو الخوف من المغامرة بل والخوف من النجاح نفسه فى ظل حملات إعلانية وإعلامية لا تكف عن تخديره وتحذيره من الخروج عن سكون الكهف، وهذا كله مرتبط بالوعى السابق الإشارة إليه.
وعلى هذا كانت الاحتجاجات التونسية الأخيرة دليلاً آخر يعلن فيها الشعب التونسى بأعلى صوته: أنا هنا أراقب وأعترض لأن مايتم فيه إهمال أو تجاوز وإنكار للحقوق أو باب للاحتيال والالتفاف على حقوقى وأهدافى كشعب، وهو الأمر الذى أقر به الرئيس التونسى المنتخب ووعد بإصلاحه.
إن هذا الحضور الشعبى هو عمل يدعم التطور والتقدم والسلام الاجتماعى ويحقق مكاسب للبلاد رغم خسائره الآنية، هو مايدعو الحكام لمزيد من الإخلاص فى العمل والبعد عن التفكير فى الاستبداد أو الفساد.
حضور الشعب فى أوقاته يؤكد أنه الأقوى، ويؤكد لحاكميه أنهم فى مهمة للشعب لا لأنفسهم ولا لجماعتهم أو طبقتهم، ولهذا فإن ذلك الاحتجاج هو مما يقوى الدولة التونسية ويطورها ويحفظ وحدة مواطنيها وثقتهم بأنفسهم مما يدفعهم للعمل بإخلاص لإحساسهم بالواجب المنوط بهم نتيجة مشاركتهم فى صناعة القرار وصياغته وحماية حقوقهم.