محمد ابو الفضل
لطفى الخولى.. كاتبا ومفكرا ومبدعا
قيمة الكاتب تتحدد على أساس ما يقدمه من إسهامات تنويرية، وما يفجره من قضايا تستفز العقل وتدفعه لمزيد من إمعان التفكير، وقد مرت على جريدة الأهرام نخبة كبيرة من هؤلاء، لعبت أدوارا مهمة فى مراحل تاريخية عدة، حفظت لهذه الصحيفة مكانتها العالية، ولا تزال بصمات البعض واضحة حتى اليوم، لأنهم تعاملوا مع الكتابة ليس فقط باعتبارها حرفة، بل بحسبانها عملا مقدسا، يؤدى بجدية، وله كل الاحترام والتقدير.
فى خضم الاحتفال بمرور 140 عاما على تأسيس الأهرام، جرى التطرق لعدد كبير من الكتاب والصحفيين، الذين كان لهم باع مؤثر، ويظل الراحل لطفى الخولى واحدا ممن كان لهم دور بارز، فى ريادته الدائمة لتقديم الأفكار، والصفحات التى تتواءم معها لتستوعبها، ناهيك عن تبنى رؤى ناضجة لازمته على الدوام، والمساعدة فى تقديم كتاب وصحفيين توسم فيهم خيرا للوطن.
منذ التحاقه بجريدة الأهرام عام 1962 وحتى رحيله عام 1999، كان الرجل واحدا من العلامات البارزة، لجرأته المتناهية فى طرح رؤاه السياسية والفكرية، وحيويته المستمرة التى لفتت الانتباه إليه مبكرا، منذ أن كان محاميا خلال الفترة من 1949- 1962، علاوة على إدمانه العوم وسط الأمواج العاتية، وقدرته على السباحة ضد المزاج العام.
كان الأستاذ لطفى حريصا على التميز، لم يعتد طرق الأبواب السهلة، بل يختار أصعبها غالبا، فى زمن حفل بالمفكرين والمثقفين والكتاب الكبار، ونجح فى أن يحفر له مكانا فوق الهضبة الثقافية وسط هذه الكوكبة الكبيرة، منذ أن أسندت إليه مسئولية تأسيس صفحة لمقالات الرأى بالأهرام، عقب التحاقه مباشرة بالجريدة، وانتقى من الكتاب أفضلهم، ومن الصحفيين أكثرهم اجتهادا، ليبدأ بهم مهمته القتالية الدقيقة.
عندما أسس الأستاذ لطفى الخولى باب الرأى فى الأهرام، اختار له شعار «ليكن الوطن محلا للسعادة للجميع، نبنيه بالحرية والفكر والمصنع»، وهى كلمات كتبها رفاعة رافع الطهطاوي، تؤكد فى المعنى النهائى أنه كان مصرا على المضى قدما على درب الريادة والنهضة.
خلال سنوات قليلة بدأت صفحة الرأى تحرك الكثير من المياه الثقافية، بسبب جرأتها وتنوع مشارب كتابها، وهو ما دفعه للتفكير فى تأسيس مجلة «الطليعة»، التى حصلت على ترخيص قانونى عام 1964، وتولى الخولى رئاسة تحريرها خلال الفترة من 1965 ـ 1977 ولقيت دعما رسميا من قبل الدولة، ومؤسساتيا من جانب رئيس تحرير الأهرام فى ذلك الوقت الأستاذ محمد حسنين هيكل.
كانت هذه المحطة من أكثر محطات لطفى الخولى شراسة فكرية، ومشاكسة سياسية، ومناكفة ثقافية، لأن المجلة ضمت عددا معتبرا من الكتاب اليساريين، الذى درجوا على اختراق الكثير من التابوهات، حتى أضحت «الطليعة» مقرا لفئات مختلفة من التيار اليساري، يضم جميع الأجنحة الموجودة فوق الأرض وتحتها، ومكتب رئيسها فى الأهرام تحول إلى مزار لشتى النخب اليسارية العربية، وعنوان لكثير من مفكرى اليسار، من الشرق والغرب.
يجمع من عاصروا مرحلة تأسيس وإغلاق وإعادة فتح ثم ورواج مجلة «الطليعة» على أنها جذبت إليها مجموعة متميزة من الشباب، صار أغلبهم نجوما بعد ذلك فى عالم الصحافة والسياسة، بسبب قدرتهم الفائقة على اقتحام الكثير من المحرمات الثقافية، وأصبحت المجلة ورئيس تحريرها مصدر إزعاج دائم للرئيس الراحل أنور السادات، لأنها لم تكف عن نقد سياساته، الداخلية والخارجية، حتى إنه لم يتحمل كلمات كتابها المتناثرة على صفحاتها، خاصة مع انتفاضة يناير فاتخذ قرارا نهائيا باغلاقها عام 1977.
وعندما حاول المفكر الكبير إعادة إصدارها فى منتصف الثمانينيات من القرن الماضى، واتخذ من نقابة الصحفيين مقرا لها، فشلت التجربة، ولم تنجح محاولات أخرى قام بها كتاب يساريون فى إعادة اصدارها بحهود فردية.
بعد هذه الخطوة، التى لم تكن مفاجئة ولها مقدماتها، تفرغ الأستاذ لطفى الخولى لمواصلة معارضته لسياسات الرئيس السادات المتعلقة بمنهج التسوية السلمية، وكان من أشد معارضى اتفاقية كامب ديفيد، وخاض معارك شرسة للدفاع عن موقفه على صفحات الأهرام، وكانت لديه مقولة نقلها عنه بعض ممن كانوا قريبين منه، أكد فيها أن كل معارض يمكن أن يكتب فى الأهرام، مع أنها الجريدة المعبرة عن لسان حال الدولة، مهما بلغت درجة الانتقاد الموجهة للنظام الحاكم، لكن شريطة أن يكون الكاتب مستوعبا للطريقة والقالب والأسلوب التحريرى الذى يعمل به الأهرام، فالحاكم يظهر غضبه سريعا مع الشتائم والسباب والمهاترات والافتراءات، لكن النقد الرصين يمكن تقبله، ولو على مضض.
هذه القاعدة الذهبية، مكنت الأهرام على الدوام أن تضم كتابا ينحدرون من مدارس فكرية وتيارات سياسية متباينة، فلم تكن هناك مزايدات رخيصة يسعى أصحابها وراء الحصول على شرف زائف لعدم نشر مقالاتهم أحيانا، أو الدخول فى معارك مفتعلة، أملا فى إحداث صخب بالعناوين، بدلا من متانة المضمون.
مسيرة الراحل لطفى الخولى الطويلة كانت شائكة ومبدعة، فعندما قاطع الكثير من الدول العربية مصر، ردا على توقيع اتفاق كامب ديفيد مع إسرائيل، كان واحدا من الكتاب الذين أمدوا خيوط التواصل الثقافى مع شرائح مختلفة من الكتاب العرب، وساعد اقترابه السياسى من القضية الفلسطينية وقيادتها، الممثلة فى ياسر عرفات وفاروق القدومى وخليل الوزير وغيرهم، فى تقريب المسافات غير الرسمية بين مصر وزعامات عربية متعددة.
يبدو أن هذه الخبرة هى التى أمدته بذخيرة حية لتأسيس صفحة »الحوار القومى بالأهرام عام 1985، وكعادته اختار لها شعارا جذابا لعبد الرحمن الكواكبى يقول فيه »ما بال الزمان يضن علينا برجال ينبهون الناس، ويرفعون الالتباس، ويفكرون بحزم، ويعملون بعزم، ولا ينفكون حتى ينالوا ما يقصدون«، والذى أصبح معبرا عن الهدف الذى يسعى إليه الخولي.
ظلت هذه الصفحة، وكانت تصدر كل أربعاء، منبرا لكثير من المثقفين وطروحاتهم المتنوعة، تفجر القضايا المسكوت عنها، وتجرى حوارات غير مباشرة بين قطاع كبير من السياسيين والكتاب العرب والمصريين، وفجرت ملفات، كان البعض يتصور أنه من الصعوبة الاقتراب منها، ونشرت مقالات لمجموعة من الكتاب لم يتسن لأعمالهم أن تظهر على صفحات الكثير من الصحف القومية، اعتراضا على مواقف أصحابها السياسية.
لحسن الحظ أننى تعرفت على الأستاذ لطفى الخولى قبل سنوات قليلة من رحيله، وتعلمت منه الكثير، حيث كنت واحدا من المشاركين فى صفحة الحوار القومي، ثم أصبحت واحدا من فريقها الأساسي، الذى كان يضم كاتبين فقط، الأستاذ الفاضل حسين شعلان، أمد الله فى عمره، وكان بمثابة دينامو الصفحة منذ تأسيسها، وتولى الإشراف عليها بعد ذلك، والصديق الراحل خالد السرجاني، الذى رغم خلافه السياسى مع الأستاذ لطفي، بسبب الموقف من التسوية السياسية مع إسرائيل، إلا أن العلاقة بينهما احتفظت بحرارتها وكانت شديدة الاحترام.
فى بداية التسعينيات، بدأت تظهر علامات تحول فكرى لافت عند الخولي، حيث انتقل من خندق الممانعة للسلام مع إسرائيل إلى مربع القبول به، بل كان عضوا فى الوفد المصرى فى مفاوضات مدريد التى عقدت فى أكتوبر 1991، وكان قريبا من اتفاقيات أوسلو بين الفلسطينيين وإسرائيل عام 1993، وتمخض عنها الاتفاق المعروف بـ »غزة - أريحا أولا«.
بعدها أصبح الكاتب الكبير من أشد مناصرى السلام، وأسس التحالف الدولى من أجل السلام، أو ما يسمى بـ «إعلان كوبنهاجن»، وضم مجموعة من الكتاب والمثقفين المصريين والإسرائيليين، الأمر الذى عرضه لحملة شرسة من غلاة اليسار المصري، وصلت حدتها لدرجة توجيه اتهامات أنكر بعضها تاريخه الفكرى والثقافى العميق.
ورغم الانتقادات التى تعرض لها، غير أنه ظل حتى آخر نفس مدافعا عن رأيه، ومتشبثا بضرورة مواصلة رحلته وسط كم هائل من العواصف السياسية والصحفية، وقدم تفسيرات مختلفة لموقفه، فى شكل مقالات نشرها على صفحات الأهرام، وكانت صفحة «الحوار القومي» من أهم الساحات التى دارت عليها معارك من مع ومن ضد السلام مع إسرائيل ؟
رحلة الكاتب الراحل مع الأهرام كبيرة ومتشعبة، اختلط فيها السياسى بالثقافي، وتداخل فيها الانسانى مع المهني، فقد كان من أهم مميزاته الدفاع عن قناعاته مهما بلغ صدامها مع الآخرين، والتراجع وقت اللزوم، وعندما سقط الاتحاد السوفيتي، بعد بروسترويكا جورباتشوف، لم يخجل الرجل من التراجع عن أفكاره الاشتراكية السابقة، وبعد أن بدت التسوية مع إسرائيل أقرب للواقع، أعاد ترتيب أفكاره، وتخلى عن نهج السير مع فريق الممانعة، وحاول المضى فى طريق السلام، الذى أضحى أيضا بعيد المنال الآن.
لذلك كان وسيبقى الراحل لطفى الخولى أحد الأعمدة المهمة فى الأهرام، التى تستند على أفكارها أجيال كثيرة، فقد ترك تراثا علميا فياضا، سياسيا وتقدميا وثقافيا وأدبيا، فضلا عن الجوانب الإنسانية التى يعجز القلم عن وصفها، لأنها تكشف عن بعد بالغ الرقة فى رجل امتلك كاريزما نادرة.