التحرير
عزة كامل
مالك وشادي وإسلام وناعوت ومحمود أمام مجزرة المحتسب العصري
بعد تسع سنوات من تولى الخليفة الحاكم بأمر الله عرش الخلافة، أخذ على عاتقه أن يقوم بالحسبة، وهى اصطلاح إسلامى يعنى فى أساسه الأمر بالمعروف عندما يكون مهملاً، والنهى عن المنكر عندما يكون علنًا، وإن تحولت هذه الأصول المثالية عند الحاكم إلى واجبات عملية اجتماعية وأخلاقية، فعمل على أن تخضع أمور الحياة فى مملكته للنص الحرفى لهذه القاعدة الدينية، وكان الحاكم يقوم بنفسه بتنفيذ واجباتها أو يكفلها إلى قاضى القضاة، أو إلى موظف كبير يسمى "المحتسب"، يختاره بعناية فائقة. ومن أشهر هؤلاء المحتسبين شخص يدعى "غين" خادم الحاكم الذى عيَّنه فى وظيفة "قائد القواد" عام 402 هجرية، وهذه الوظيفة أعطته الحق فى أن يقوم بدور"المحتسب" أيضًا، وقبل تعيينه اشتد خوف الناس عندما علموا بأن الحاكم أمر بإعداد شونة تحت الجبل، تمتلئ بالسنط والبوص والحلفاء، فخافواجدًّا، خصوصًا من كانوا يعملون فى خدمة الدولة مثل الأولياء والقواد والكتّاب وسائر الرعية من العوام، ففى ذلك الحين قويت الشفاعات وتفاقمت أشكال الاضطرابات، فخرج الناس وساروا إلى قصر الخليفة الحاكم ووقفوا على بابه يدعون ويتضرعون ويصيحون ويسألون العفو عنهم! ولم ينصرفوا إلا عند قراءة قائد القواد سجلًّا بالعفو عنهم.

وكان المحتسب يتشدد فى توقيع الحسبة على المخالفين وهو ما عرف اصطلاحيًّا بالتعزير، وهو يعنى "الردع بحذف الشىء المخالف والجلد بالسوط، والتشهير والطواف فى المدينة"، وأمر الحاكم بأن يضرب فى الطرقات بالأجراس ونودى بأن لا يدخل أحد الحمام إلا بمئزر، ولا يمشى اليهود والنصارى إلا بالغيار، وتم اقتحام الحمَّامات، وأخذوا منها جماعة وتم التشهير بهم، حيث أنهم وجدوا بغير مئزر، ومنع بيع النبيذ بالتظاهر بشىء منه أو من الفقاع (البيرة)، ومنع بيع السمك الذى لا قشر له! ومنع النصارى من الغطاس، ومنع الناس من الاجتماع فى المآتم ومن اتِّباع الجنائز، ومنع الناس من الخروج من منازلهم قبل صلاة الصبح وبعد صلاة العشاء، ومنع من الاجتماع على شاطئ النيل، ومنع ركوب النساء المراكب وذهابهنَّ إلى الحمَّام أو خروجهن إلى الطرقات فى ليل أو نهار، ولا يكشفن وجوهن ولا يتبرجن سواء كانت المرأة شابة أو عجوزًا، فاحتبسن فى بيوتهن ولم تُرَ امرأة فى طريق وأغلقت حماماتهن، ومنعت دكاكين الإسكافيين عن صناعة خفاف النساء وتعطلت حوانيتهم، ومنع الغناء واللهو، وأخذ المحتسب "غين" يجمع الشطرنج من أماكن متعددة وأحرقها، ومن باع السمك الذى لا قشر له من الصيادين تضرب رقبته، وأحرقت من الزبيب كانت فى مخازن التجار. وقرئ سجل فى الأطعمة بالمنع من أكل الملوخية، والجرجير، والقرع والمتوكلية.

ورغم كل تلك الفرمانات وأشكال المنع، خالف الناس أوامر الحاكم والمحتسب فازدحموا على شراء النبيذ بعد منعه، وبيع منه الشىء الكثير، ولم يوجد لكثرة طلبه، وشرب الناس الخمر فى السر، وخالفت النساء الأوامر وخرجت فى الطرقات وذهبن إلى الحمامات رغم ضرب الكثيرات منهن للأوامر، وتم حبسهن، ولم يمتنع الناس عن أكل الملوخية والجرجير، بل كانوا يتفننون فى طرق حفظها وجعلها صالحة للأكل، لذلك جن جنون الحاكم بأمره
وكذلك المحتسب وضربت الكثير من الرقاب، وقطعت الكثير من الأيادى والأرجل.

ولم يشفع للمحتسب "غين" أنه كان خادمًا أمينًا للخليفة الحاكم بأمره، فقد صرفه من الشرطة والحسبة عام 402 هجرية، وبعد شهور قطعت يد "غين" وبعدها بعشرة أيام أمر الحاكم بقطع لسان "غين" فقطع ومات بعد ذلك.
(الحسبة العصرية)

لم يكن "غين"والحاكم بأمر الله" يعلمان أنهما قد أسّسا لقاعدة فقهية وتشريعية لن تطويها الأزمنة، أو تغير أنظمة الحكم، فلدينا الآن الآلاف من "غين" ولكنهم

متسلحون بترسانة من القوانين مثل"ازدراء الأديان والتظاهر والإرهاب وغيرها"، وهناك الأبواق الإعلاميون والبصاصون، منهم حاملو "السيديهات"والفيديوهات،

والرقباء على كورنيش النيل وعلى القهاوى واللجان الإلكترونية، والاتهامات بالعمالة والخيانة لأى رأى مخالف أو حتى السخرية، وهى الوسيلة الوحيدة للتنفيس

والاختفاء القسرى لمئات من المواطنين، وامتلاء السجون بشباب الثورة والمعارضين، ومن يتجرأ ويناقش ويجادل فى إعمال العقل فى تفسير النصوص وفى

المرويات وفيما نتناقله عمن أطلق عليهم"الأئمة والفقهاء"، فها هو إسلام البحيرى يحاكم بالحسبة وازدراء الأديان، وفاطمة ناعوت تنتظر نفس المصير.
رغم أن المادة التى سجن بها إسلام بحيرى وهى 98 من قانون العقوبات تم إصدارها في إبريل 1982 عقب اغتيال الرئيس محمد أنور السادات بشهور قليلة. فى عهد محمد حسني مبارك، إذ كان المقصود بها تجريم الجرائم التي تتعلق بالمساس بأمن الوطن، ولا تتعلق بتهمة ازدراء الأديان، ولذلك فهي تأتي في القانون ضمن سلسلة مواد تتعلق بالمساس بأمن الدولة، ولم تكن ضمن المواد التي تتعلق بالاعتداء على الدين كالمادتين 161، و162 من نفس القانون، وكان الغرض منها "منع السلفيين المتشددين من اعتلاء منابر المساجد أو إذاعة خطب تؤدي إلى الفتنة الطائفية"، وكان على رأسهم الشيخ عبد الحميد كشك.

والمفارقة أن السلفيين والأصوليين ولاعقى الأحذية والباحثين عن الشهرة هم الذين يرفعون هذه القضايا ويستخدمون أبواقهم الإعلامية للدفاع عن تنفيذ قضايا الحسبة وازدراء الأديان، هذه القوانين التى تشكل تعارضًا مع بعض مواد الدستور المصرى الذى يتم إهانته كل يوم على يد المحتسبين وفى داخل أروقة البرلمان فى اليوم الأول من انعقاده بالتلاعب بالقسم، والاستخفاف به.
ومن ثم تحول شادى ومالك لعميلين للمخابرات الأمريكية والإسرائيلية على حسب المحامى سمير صبرى، الذى يدعى بأن لديه الوثائق التى تثبت ذلك،

وأنه سيقوم بتقديمها لنيابة أمن الدولة العليا، وتعالت الأصوات والأبواق المشروخة لحبس شادى ومالك، ومن الممثلين من هدد بالانسحاب من المسلسل الذى يضمه مع مالك، ومنهم من طالب بسحب عضويته من النقابة مع أن "مالك" لم يحصل على عضوية النقابة. ولم يكف اعتذار مالك، كل هذه الهستيريا لم تؤد إلا لزيادة عدد المتابعين لشادى ومالك وزاد عدد المتعاطفين معهم، الذين كانوا فى البداية مستائين من فعلتهم.

وها هو الطالب محمود محمد أحمد، المحبوس احتياطيًّا على ذمة القضية المعروفة إعلاميًّا بـ”محبوس التيشيرت"، لأنه تجرأ وكتب عليه "وطن بلا تعذيب”، ما زال محبوسًا رغم تجاوزه فترة الحبس الاحتياطى، محمود -يبلغ من العمر 20 عامًا، وقد تعرض للتعذيب كي ينتزع منه اعتراف، ولم يمثل أمام محكمة أبدًا.

وحسب القانون المصري فإن فترة عامين هي حد الاعتقال دون محاكمة. وقد استوفى محمود هذه المدة بعد قضائه أكثر من عامين، دون اتخاذ قرار من

النيابة، وحسب القانون المصري فإن فترة عامين هي حد الاعتقال دون محاكمة. وقد استوفى محمود هذه المدة بعد قضائه أكثر من عامين، دون اتخاذ قرار من النيابة العامة بإحالته للمحاكمة، الأمر الذى يستوجب الإفراج عنه. لكن الحبس الاحتياطى أصبح البديل القانونى للاعتقال التعسفى.

ذات يوم كان للشباب حلم ومشروع أمامه ألف نافذة وألف باب، فنزل الحلم من علياء التحليق فوق الجبال وانكسر، وبددته الريح، والصباحات تتكرر فوق قلب انفطر بحزنه الحارق، والشوارع تكتنز غلًّا وقهرًا.

على البرلمان أن يقوم بمراجعة جميع نصوص قانون العقوبات وإلغاء النصوص التى تتعارض مع حرية الرأى والفكر والتعبير والإبداع إذا أردنا لبلدنا أن يتعافى ويتقدم.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف