المساء
خيرية البشلاوى
رنات -د. نبيل علي.. أبكيك بقدر ما علمتنا وأسعدتنا..!
عذرا.. فقد عجزت عن الفرار من فخاخ الحزن التي حاصرتني منذ رحيل الصديق العزيز الدكتور العالم نبيل علي "1938 ــ 2016".
كنت وسوف أظل أرتعد من حتمية "النهاية" من النقطة هذه التي توضع في آخر السطر.
نهاية الأشياء الجميلة تؤرقني حتي قبل أن تأتي. ارتعد من الفراق. من وداع ليس بعده لقاء. من رحيل صديق غيابه يعني نهاية رصيد اختزنته لأيام جافة. ولساعات وأيام يعز فيها الأمل.
كان نبيل صديقا لي ولزوجي المرحوم سامي خشبة وزوجته السيدة الجليلة المخلصة نبيلة السلمي ضمن أعز وأطيب من عرفتهم في حياتي.
لم تكن صداقتنا نحن الأربعة صداقة عادية.. وكيف تكون عادية وهي تجمع بين اثنين من رهبان المعرفة "نبيل وسامي" منازتان إذا ما تجاورا تم الضياء. نور المعرفة ونور العلم.
رحل سامي عام 2008 وها هو نبيل يفارقنا منذ أيام 2016.
ود. نبيل علي لم يكن مجرد عالم مبتكر لا يكف عقله الفذ عن الإبداع. وإنما مقاتل مصري في ميدان العلم. في هندسة الطيران والتكنولوجيا. وفي علوم اللغويات والكمبيوتر.
وكان سامي مفكرا موسوعيا. لا يعرف التهاون في تحصيل المعرفة واحتوائها والاثنان انشغلا بالعقل العربي كل في دربه. واجتهدا في إثراء مجتمع المعرفة كل واحد منهما بأدواته وكان اللقاء بينهما في جلساتنا العائلية يحولني أنا وزوجته الصديقة العزيزية إلي "رعايا" وتابعين في واحة العلم والثقافة بمفهومها اللامحدود.
اسهامات نبيل علي في إثراء اللغة العربية من خلال تطويعها للحاسوب "الكمبيوتر" خلق بينهما زواجا مثمرا ومشروعا فقد علمنا أن مجتمع المعرفة الحديث يتكئ علي العقل الآلي "الكمبيوتر" والعقل الإنساني "اللغة" والعقل الجمعي.
نقل الراحل العزيز من هندسة الطيران إلي مجال الكمبيوتر وهو أول من أدخل نظم الحجز الآلي في شركات الطيران في المنطقة العربية.. وله العديد من المؤلفات عن "الثقافة العربية وعصر المعلومات" وعن "العقل العربي ومجتمع المعرفة" و"العرب وعصر المعلومات" مؤلفات تستحق أن تدرس في المعاهد العلمية.. ومن بين أقواله المأثورة إنه كتب علي الإنسان أن يري واقعه دوما من خلال عدسة مشوهة. وما يراه واقعا هو في أغلب الظن ما يود أن يري هذا الواقع في صورته.
نبيل فنان ورسام ويؤمن بالقراءة جدا ويري أن علينا أن ننمي مهارات القراءة بمستوياتها المختلفة.. كان ينظر لمكتبة سامي الضخمة. ويقول معلقا في مرح. كل هذه الكتب يمكن أن توضع في ديسك تضعه في جيبك.. وقد صمم نبيل علي العديد من البرامج التربوية والتعليمية وقاعدة بيانات معجمية للغة العربية وصمم أول برنامج للقرآن الكريم إلي جانب انجازاته العلمية الباقية والتي تذكر بقيمته كعالم مصري ــ ابن بلد ــ عالمي كسر الحدود بين العقل العربي وبين عالم المعلوماتيات غير المحدود.
هذا العقل الجميل المضئ ابدا دخل في غيبوبة ليست طويلة ــ الحمد لله ــ حتي فاضت روحه.. وحلت النهاية.. ولا أملك إلا الانصياع لنهايات حتمية بإرادة إلهية وسبحان من له الدوام.
ولكن أقسي "النهايات" هي تلك التي تقيم الحد بين الجمال والقبح. بين النور والعتمة. بين الضحالة والاستهانة بقيم العلم والأخلاق. وبين اعلاء قيمة العقل وقيم الأخلاق الإنسانية.
مع غياب العقول الجميلة المستنيرة تنشط فيروسات التخلف والجهل. وها نحن نري أعراضها المرعبة تنتشر بين نسبة ليست قليلة من أجيال الأبناء والأحفاد.. هؤلاء من أصبحوا يستخدمون لغة مشوهة وغريبة جدا وبحروف لاتينية للتعبير عن ذواتهم في تواصلهم علي الفيس بوك وعلي شاشات التليفونات المحمولة. لغة تلغي ذواتنا الأصيلة.
وبكل أسف لم يتسع الوقت لكي أسأل د. نبيل عن رأيه في هذه الكارثة التي أصابت لغة التواصل بين الأجيال الجديدة أو عن ماذا ينتظرنا في المستقبل حين يصاب العقل العربي الجديد بهذه الآفة التي لم يلتفت إليها أحد من علمائنا اللغويين حتي الآن.
الأغلب أن إجابته علي هذه التساؤلات والمخاوف لن تخلو من سخرية ومن نزعته المتفائلة. ومن تأكيده علي ضرورة الالتفات بجدية صارمة إلي صناعة المعرفة. والاهتمام بصياغة عقول الأجيال الجديدة عبر برامج تعليمية وتثقيفية وعلمية تشكل حائط صد أمام هذا التيار العبثي المصطنع لتشويه اللغة العربية والمفارقة أن هذا العالم الجليل والجاد الذي رحل عنا منذ أيام كان عبقريا أيضا في اشاعة روح المرح. والسخرية من العاهات البشرية التي تصيب مدعي العلم والثقافة ومن المتوسطين "الميديوكر" الذين يحتلون مقدمة المشهد الثقافي ومن يديرون شئون الثقافة في المؤسسات المختلفة وكان لا يقبل لابنائه "ثلاثة" بأقل من درجة الدكتوراه.
ما أقسي أن تعيش لتشهد "نهاية" صداقة طويلة بديعة مثرية للعقل والوجدان وتجد نفسك وكأنك أصبحت وحيدا تماما تتابع ألعاب الصبية الأوغاد في الليالي غير المفترجه ومع حشود تملأ الفضاء الافتراضي يلهون بلغو غث يسئ إلي لغتنا الجميلة التي هي العمود الفقري للعقل الجمعي العربي.. وما أبشع أن تودع عالماً بحجم د. نبيل علي في وقت تشتد فيه الحاجة إلي عطاء من هم مثله!
ولست اعتقد أن أمثاله من العلماء الوطنيين يمكن أن يتركنا من دون أن يترك خلفه من يواصل رسالته.
أيها الصديق العزيز الذي غاب عنا لقد تركت لنا من بعدك ما ينفع الناس بالتأكيد وشبابا آمنوا برسالتك ودورك الذي أفنيت عمرك تؤديه.. فأنعم بالسيرة العطرة علي الأرض وبالفردوس الأعلي في رحاب الله.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف