الوطن
جمال عبد الجواد
حوار الطرشان فى يناير
لست من دراويش يناير، ولم أشارك فى أى من مظاهراته، وكنت أنظر طوال الوقت بتشكك لما يجرى فى ميدان التحرير خوفاً من النتائج. لم يكن موقفى حباً فى مبارك ونظامه، ولكن لأن المقدمات لم تكن توحى بنتائج تدعو للتفاؤل. نظام مبارك كان فيه الكثير من العوار الذى يحتاج إلى إصلاح جذرى لكن تدريجى ومنظم وآمن لأن وضعنا السياسى كان على درجة من الهشاشة تجعل نتائج الثورة على النظام أسوأ كثيراً من بقائه، ولهذا خاصمت الثورة.

سيناريو السيطرة الإخوانية هو أسوأ السيناريوهات التى كان يمكن ليناير أن يقود إليه. تجاوزنا هذا السيناريو فى الثلاثين من يونيو، ولكننا ما زلنا فى مواجهة مصيرية مع الإخوان وجماعات التطرف، أى إننا ما زلنا نتعامل مع آثار يناير، ولم ننتقل بعد إلى مرحلة التعامل مع الأسباب التى أدت إلى يناير، وهو ما لن يحدث حتى نفهم هذه الأسباب ونتفق عليها، وفى المقدمة منا أهل الحكم المخولون بإخراجنا من النفق.

يناير وما بعده هى أعراض لازمة ممتدة ولأسباب عميقة تمتد جذورها أبعد من يناير بكثير، وأسوأ ما فى حوار الطرشان الدائر حالياً بين من يعتبرون يناير ثورة ومن يعتبرونها مؤامرة هو أن شجارهم يصرفنا عن مناقشة القضية الحقيقية، ألا وهى الأسباب وأوجه الخلل التى جعلت ما حدث فى يناير ممكناً.

المؤكد بالنسبة لى أن قطر والإخوان كانوا يتآمرون، وأن بعض الموظفين الثانويين فى أمريكا كانوا يلهون ويجربون مدفوعين بخفة وغطرسة القوة العظمى. المتآمرون كانوا ينطقون بقول لا يعكس حقيقة نواياهم، فيما كانوا وراء الأبواب المغلقة يفعلون أشياء أخرى لتحقيق أهداف غير معلنة احتفظوا بها لأنفسهم لأن إعلانها كان كفيلاً بإيقاظ عقول وقلوب تم التلاعب بها. والسؤال المنطقى هنا هو لماذا عجز نظام مبارك عن الانتصار على المتآمرين؟ ولماذا كانت أجهزة التآمر القطرية والإخوانية أكثر مهارة وحرفية من أجهزة مبارك الأمنية والسياسية، وهو سؤال لا نعرف له إجابة شافية حتى الآن؟

مؤامرة قطر والإخوان لم تكن لتنجح لولا أن المتآمرين استفادوا من مناخ الغضب والسخط الذى انتشر ضد النظام، والسؤال هنا هو عن الأسباب التى أفقدت مبارك ونظامه عقول وقلوب الكثير من المصريين، والتى جعلت هؤلاء مستعدين للخروج ضد مبارك فى مثل هذه الأيام قبل خمس سنوات.

كان هناك مساران، واحد للمؤامرة وآخر للثورة، فاختلط الحابل المتآمر بالنابل الثورى. القائلون بالمؤامرة يتجاهلون حقيقة خروج مئات الآلاف من الناس مدفوعين بالغضب والأمل، وبعضهم يفعل ذلك عن عمد للتهرب من أى نقاش حقيقى حول أخطاء نظام مبارك التى أوصلت الناس إلى هذا الحال. أما القائلون بالثورة فيتجاهلون -وبعضهم عن عمد- أن المتآمرين من كل حدب وصوب استغلوا براءتهم التى وصلت إلى حد السذاجة، وأن الثورات لا تنتصر بالبراءة والنوايا الحسنة، وأن الغضب وحده لا يكفى لقيام ثورة ناجحة، وأنه بدون الأفكار والتنظيم والقيادة تتحول الثورة إلى فوضى يسهل على المتآمرين التلاعب بها، وتحويلها إلى مجرد صفحة فى كتاب التاريخ وذكرى لأيام الشقاوة والبراءة.

مؤامرة يناير أخذت شكل الثورة، وثورة يناير ضاعت فى حبائل المؤامرة، والمؤكد أنه لولا الثورة لما كانت المؤامرة. الأمر المريب هو أن أحداً من أهل الحكم لم يخرج علينا ليشرح رؤيته للأسباب التى أوصلت غضب المصريين إلى درجة الثورة، وعما يجب على أهل السلطة القيام به حتى لا يجد بعض المصريين أنفسهم مدفوعين للخروج على الحاكم والنظام مرة أخرى بعد عدة أعوام، فالثورة هى الدليل المؤكد على فشل نظام مبارك، ولا أحد يريد لمصر أن تعيش فى ظل سلسلة من الأنظمة الفاشلة المتتالية.

كان المتوقع فى ذكرى الخامس والعشرين من يناير أن تنعقد حلقات الدرس والندوات الجادة لدراسة مظاهر وأسباب الفشل الذى أدخلنا فيما نحن فيه منذ خمس سنوات، وكان المنطقى أن يجرى تنظيم هذا النقاش برعاية مؤسسات الدولة التى يجب أن تكون معنية أكثر من غيرها بتجنب الفشل الذى قاد إلى يناير. فما جرى فى يناير 2011 هو أهم حدث سياسى مر بهذا البلد منذ عقود، وستحدد نتائجه مصير هذه الأمة فيما يلى من عقود أخرى، ومن مظاهر الفشل المتواصل أن ننصرف عن تدارس أهم ما حدث لنا لننشغل بالتراشق بين أنصار الثورة والقائلين بالمؤامرة.

الكثير من العوائق يمنع قيام مثل هذا الحوار، ولعل أهمها هو أننا لا نعرف بالضبط من هى الجهة فى مؤسسات الحكم وصنع القرار التى نستطيع أن نفتح معها حواراً من هذا النوع، فلا هناك حزب حاكم يمكن التواصل مع قياداته، ولا يوجد لأهل الحكم ممثلون بين أهل الفكر والدراسة يمكن التحاور معهم، وكل ما هناك مسئولون حكوميون مستغرقون فى قضايا فنية متخصصة غير مستندين إلى رؤية معلنة عن الأسباب التى أوصلتنا إلى ما نحن فيه وكيفية تجنب تكراره، وآخرون أمنيون لا نعرفهم وليس الحوار من الأشياء التى يحبونها أو يبرعون فيها.

فى تاريخ هذا البلد الكثير من الإخفاقات والقليل من الانتصارات، فالفشل هو أهم مكونات ميراثنا التاريخى منذ ثورة عرابى، وحقبة النهضة الليبرالية، والنتائج المحدودة لثورة 1919، وتجربتنا الاشتراكية، ومن بعدها تجربة الانفتاح الاقتصادى، وحروب 1948 واليمن و1967، وكلها إخفاقات لم نتحاور حول أسبابها بقدر كافٍ، ولم يكن أهل الحكم أبداً طرفاً فى حوار كهذا، مكتفين بوعود عمومية يلفها الغموض حول معالجة آثارها. وأخشى أن يناير قد تم ضمه إلى قائمة الأحداث الممنوع علينا فهمها لكى نبنى مستقبلنا على إدراك سليم لدروسها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف