الأهرام
طه عبد العليم
اقتصاد الفشل والظلم .. نقد ذاتى
كان إنكار دور السوق عاملا أساسيا فى أزمة اقتصاد الأوامر الاشتراكي؛ وكان إنكار تدخل الدولة عاملا أساسيا فى أزمة الاقتصاد الحر الرأسمالي. لأن تخصيص الموارد وتحديد الأسعار بأوامر بيروقراطية إرادية أو وفق اعتبارات الربح الخاص، مع تجاهل قوانين السوق وخاصة قانون العرض والطلب، وتجاهل دور الدولة فى ضبط عمل السوق وضمان عدالة توزيع الدخل؛ قاد فى الحالتين الى هدر كفاءة تخصيص الموارد وعدالة توزيع الرخاء؛ كما تكشف أزمات اقتصاد التخطيط والاقتصاد الحر على السواء.

وأشير، أولا، الى اعتراف يورى أندروبوف، سكرتير عام الحزب الشيوعى (نوفمبر 1982- فبراير 1984)- وكان قبلها رئيس لجنة أمن الدولة (المخابرات السوفيتية)- فى الاتحاد السوفيتى السابق، يقول: إن الفكرة حين تنفصل عن المصلحة يكون الإخفاق مصيرها، وإن المؤشر الرئيسى لكفاءة الاقتصاد وهو انتاجية العمل لا ينمو بمعدلات مُرضِية، وإن النواقص الجسيمة للتخطيط فى الاتحاد السوفيتى معروفة ومنها التبديد غير المبرر للموارد ورداءة السلع الاستهلاكية المنتجة. وتساءل: لماذا لا نحصل على العائد الضرورى من الاستثمارات الضخمة؟ ولماذا لا يستوعب انتاجنا المنجزات العلمية التكنولوجية بالمعدلات المرجوة؟ وفسر مأزق الاقتصاد الاشتراكى بعدم الحرص على ممتلكات الشعب وعلى مضاعفة هذه الممتلكات؛ من حهة، والإخلال بمبدأ التوزيع حسب العمل؛ عبر الكسب غير المشروع والتراخى فى أداء العمل والتغيب عن العمل بدون سبب وعيوب الانتاج. وأكد الزعيم الماركسى اللينينى المتشدد: وإن انتاجية العمل لا بد وأن تفوق زيادة الأجور؛ وهدر هذا يؤدى الى نقص السلع ويثير استياء الكادحين؛ وأن المجتمع صاحب الملكية الاشتراكية له الحق فى أن يحاسب بصرامة كل من يهدر ثرواته؛ بسبب تهاونه أو أنانيته أو جهله.

ويضيف خطاب النقد الذاتى السوفيتي: إن الملكية العامة كانت فى أغلب الأحوال فريسة للنزعات المصلحية، حتى باتت كأنها ملكية لا مالك لها؛ واستغلت فى حالات كثيرة لجباية الدخل غير المشروع. وأما التخطيط المركزى فقد جنح الى احتواء كل شيء؛ واتخذت قراراته دون مراعاة الإمكانيات الفعلية، وسادت نزعة إرادية فى تسيير الاقتصاد، واعتبرت آليات السوق منافية للاشتراكية. وارتكز تحقيق النمو الى استخدام موسع وغير رشيد للموارد الجديدة، وقاد هدر مبدأ التوزيع حسب العمل الى تشويه مبدأ العدالة الاجتماعية وإعاقة نمو انتاجية العمل.

وأشير، ثانيا، الى اعتراف جيمس وولفنسون، رئيس مجموعة البنك الدولي، فى خطاب نقد ذاتى وجهه الى مجلس المحافظين فى أكتوبر 1998، عقب الأزمة الآسيوية؛ يقول: إن بلدانا اتبعت سياسات صارمة للاصلاح الاقتصادى على امتداد سنوات عديدة، يتعرض عمالها للطرد من وظائفهم، ويتوقف أطفالهم عن التعليم، وتتحطم آمالهم وأحلامهم.. واليوم تحيط بنا المعاناة الانسانية فى كل مكان؛ وأرواح العديد من البشر معرضة للخطر.. ولا يمكن أن نسترشد بالأيديولوجيات السائدة؛ ولا يجب أن تهيمن الحسابات الرياضية على مصير البشر.. وكثيرا ما ركزنا أكثر من اللازم على الجوانب الاقتصادية بدون فهم كاف للأوضاع الاجتماعية والسياسية والبيئية والثقافية فى المجتمع.. إن فكرة أن التنمية تتطلب برنامجا اقتصاديا واجتماعيا متوازنا ليست فكرة ثورية, ومع ذلك فانها لم تكن النهج الذى نسير عليه؛ ولم نفكر فى تمكين بلد معين من النمو فى اطار نظام اقتصادى يختاره شعبه وقيادته..

ويضيف رئيس البنك الدولى قائلا: لقد تعلمنا أن أى استقرار سياسى لن يتحقق اذا لم نحقق قدرا أكبر من العدالة الاجتماعية، وبدون الاستقرار السياسى لن يحقق أى مبلغ من المال برامج الاستقرار المالي.. وأننا حين نطالب الحكومات بتنظيم اقتصاداتها- إن الناس هم الذين يشعرون بالألم؛ وحين نصحح اختلالات الموازنة أن برامج ابقاء الأطفال فى المدارس قد تضيع، وأن برامج الرعاية الصحية لأشد الناس فقرا قد تضيع، وأن المشروعات الصغيرة والمتوسطة- بدخولها ووظائفها- قد تنهار.. وأنه يجب أن نوازن بين ضرورة الاصلاح الجذرى وحماية مصالح الفقراء، حتى يكون الإصلاح الاقتصادى قابلا للاستمرار.

وأشير ثالثا، الى ما كتبه اقتصاديون ومفكرون أمريكيون بارزون فى تفسير الأزمة المالية والاقتصادية العالمية؛ التى فجرها نموذج الاقتصاد الحر أو اقتصاد السوق الحرة بمثاله الأمريكي. فقد كتب جوزيف ستيجليتز- الحائز على جائزة نوبل فى الإقتصاد، يقول: إن الناس فى العالم بأسره قد أعجبوا بنا بسبب اقتصادنا، وقلنا لهم إذا أردتم أن تكونوا مثلنا ها هو ما ينبغى أن تقوموا به: أعطوا السلطة للسوق! وأضاف: الآن أنه لا يوجد من يحترم هذا النموذج بعد الأزمة الراهنة. وبالطبع فان هذه الأزمة تطرح أسئلة حول مصداقيتنا، ويشعر الجميع أنه يعانى بسببنا! وكتب روبرت ماك إلفين، أستاذ التاريخ الأمريكي، يقول: إن سبب الأزمة الراهنة هو تجاهل الدروس المستفادة من أزمة الكساد العظيم.. فالسبب الرئيسى فى الحالتين: إن القادة الاقتصاديين والسياسيين الأصوليين كانوا فى موقع المسئولية، فتمسكوا بإيمانهم بآلهة السوق؛ فقد تم إحياء الأصولية الاقتصادية لتودى بنا مجددًا إلى الفوضي. وأضاف إن أكثر المخاطر بروزًا للرأسمالية هو تركز الدخل فى القمة وهو ما يضعف أساس عمل اقتصاد يستند إلى المستهلك.

وكتب انتونى فيولا تحت عنوان نهاية الرأسمالية الأمريكية، يقول إن الأزمة المالية الراهنة- وهى الأسوأ منذ الكساد العظيم- توجه الإتهام الى النمط الأمريكى للرأسمالية؛ الذى على عكس النموذج الألمانى مثلا، يزدرى الضبط. وقد قادت أمريكا حربا صليبية منذ الثمانينيات لإجبار معظم دول العالم، وخاصة الدول النامية، على إبعاد يد الحكومة عن قطاعات المال والصناعة؛ لكن الماركة المسجلة للرأسمالية الأمريكية المعادية لتدخل الدولة فى الاقتصاد صارت محل استياء يتزايد. وكتب هارولد مييرسون يذكّر بأن عددا من المثقفين نشروا فى عام 1949- فى مجلد معنون الآلهة التى سقطت فى الإمتحان- مقالات يشرحون فيها لماذا لم يعودوا شيوعيين! ودعا المثقفين المحافظين الى نشر مجلد مماثل حول سقوط معبودهم السوق الحرة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف