الوطن
د. محمود خليل
حكومة «ورقة»
استشهدت ذات يوم بمشهد من فيلم «شنبو فى المصيدة» لتوصيف الحالة التى وصلت إليها العلاقة بين الإعلام والجمهور. فالإعلام يخاطب الناس بنفس المنطق الذى كان يخاطب به البروفيسور «دارويش» (يوسف وهبى) «شنبو» (فؤاد المهندس) حين أخضعه لأشعة وصفها بـ«الألترافزيونية»، ليقنعه بأنه «ورقة»، حتى يلقى بنفسه من قمة البرج. فأخذ يكرر له: «انت ورقة.. انت ورقة». الشاب إسلام جاويش اتخذ من «الورقة» أداة للتعبير عن رأيه فى بعض الأوضاع التى نعيشها، عبر صفحة أنشأها على «فيس بوك»، وبعد عام من «الرسومات» الكاريكاتيرية، تم القبض عليه، ووجهت إليه تهمة الإساءة إلى شخصيات وقيادات عامة!

من يطالع رسوم الشاب على صفحته يجد أنه كان يسخر من أوضاع كلنا نسخر منها، بطريقة أو بأخرى، مستخدماً الأداة التى يجيد السخرية بها: «الرسم»، ليستجلب الضحكة من قلب المأساة. يقول عمنا صلاح جاهين فى واحدة من رباعياته: «الضحك قال يا سم ع التكشير.. أمشير وطوبة وأنا ربيعى بشير.. مطرح ما بأظهر بأنتصر ع العدم.. إنشالله أكون رسماية بالطباشير.. عجبى!». هل «الرسماية» يمكن أن تثير القلق على الأمن إلى هذا الحد؟، وأى أمن هذا الذى يقلق من مجرد رسم كاريكاتيرى ساخر؟. وأى مسئول أو شخصية عامة تلك التى تهتز لمجرد أن شاباً انتقدها؟ أجيال عديدة تذكر سخرية صلاح جاهين من شخصيات عامة وقيادات، فى جريدة الأهرام، ومصطفى حسين فعل الشىء نفسه فى الأخبار، ولم نسمع أن الأمن تحرك ضد أى منهما، واتهمهما بـ«الإساءة».

التحرك ضد إسلام جاويش أمر يثير القلق من عدة وجوه، أولها أن بعض من تصدوا للعمل العام لم تعد أعصابهم تحتمل أى نقد، ويعكس ذلك عدم وعى بأن من يتصدى لهكذا عمل يصح أن يكون عرضة للتقييم. هذا أمر طبيعى جداً. فالعمل الإعلامى -أياً كان الشكل الذى يأخذه- هو فى النهاية عمل رقابى، ودور وسائل الإعلام يتحدد بصورة أساسية فى الرقابة على أداء الشخصيات العامة ومؤسسات الدولة. ثانيها أن «إسلام» شاب، وشأنه شأن كل الشباب الذين تسيطر عليهم حالة تمرد على الواقع، وعدم رضاء عن مستوى الأداء، وإحساس بعدم الثقة، بسبب تهميشهم من ناحية، وإحساسهم بعدم الاطمئنان على مستقبل أحلامهم من ناحية أخرى. وخلافاً لشخصيات شبابية أخرى، سعت إلى التعبير عن احتجاجها بوسائل غير لائقة، اجتهد «جاويش» فى التعبير عن احتجاجه برسم فنى، وهو فى النهاية حر فى الرأى الذى يعبئه فيه، دستور البلاد ينص على حرية التعبير. والقبض على «جاويش» خلافاً لما ينص عليه الدستور يعنى من جديد أن هذه الوثيقة كتبت لكى توضع على الرف!

القبض على هذا الشاب يحمل رسالة سيئة للشباب المصرى، بل للمصريين جميعاً. ويتوجب علىّ فى هذا المقام أن أتوجه بنصيحة إلى الحكومة أقول لها فيها: «بالراحة شوية»، ما يحدث ليس فى صالح أحد، ونتائجه لن تكون سهلة. الحكومة التى تهتز لـ«ورقة» هى حكومة ورقية، من الواضح أنها تأثرت بالأشعة الألترافزيونية للبروفيسور «دارويش»، واقتنعت بأنها «ورقة»!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف