عبد الجليل الشرنوبى
واراءالديمقراطية على الطريقة الأمريكية
فى الخريف الذى أعقب دخول مندوب عن التنظيم الإخوانى إلى قصر الرئاسة المصري، وجهت جامعة (كولومبيا) الدعوة إلى عدد من الشخصيات المصرية المتنوعة الآراء والاتجاهات، لحضور حلقة نقاشية يحضرها رئيس الجامعة بصحبة وفد أكاديمي، لم يكن عدد الحضور يتجاوز العشرين، وإن كان غالبيتهم يتماسون بطريقة أو بأخرى مع دوائر بحثية أو أكاديمية أو إعلامية أمريكية، وكان كاتب هذه السطور غريبا على الجمع مُستَغْرِباً الدعوة، وساعيا لفهم هواجس تتنامى حول القضية المطروحة للنقاش (مستقبل الديمقراطية بعد 25يناير)، فى ضوء وصول مندوب عن التنظيم للحكم بمباركة أمريكية.
حضرتُ اللقاء محملا بأتربة ميدان التحرير الذى طالما لذت به كلما داهمنى اليأس وأنا أرى وطنى يلتهمه تنظيم إن تمَكَنْ لن يُبقى لشعبه دينا أو وطنا. كان السؤال الذى يطرح نفسه داخلى (ماهو التصور الأمريكى للديمقراطية) وسرعان ما صار السؤال أكثر تحديدا (ما هى الديمقراطية التى تسعى بلاد العام سام لفرضها علينا؟). ولم أحصل على إجابة شافية رغم الأحاديث الرصينة التى دارت حاملة أجزل مصطلحات العلوم السياسية، ومجسدة بعض مخاوف من صعود الإخوان، لكن ما طغى على دفة اللقاء كان توجيها صوب نتيجة واحدة (مصر تسير على الطريق الصحيح نحو الديمقراطية)، مع وعد أمريكى صرح به رئيس جامعة كولومبيا قائلا (نرتب لمؤتمر كبير ندعوكم جميعا إليه فى مقر الجامعة، بهدف مناقشة آليات تطوير الديمقراطية فى مصر بعد 25 يناير 2011م، ونخطط لأن يكون هذا فى الخريف المقبل)، تجاهل رئيس الجامعة الأمريكية كل مخاوف الحضور من التمكين الإخوانى فى مصر التى كان معظمها عاما، وكذلك تجاهل تماما تحذيراتى التى ساقتها كلمتى محددة بمعلومات من داخل التنظيم، وهو ما دعانى لأن أطلب مداخلة أخيرة أشكر فيها الدعوة وأستنكر أن مهتماً بمستقبل مصر الديمقراطى يقرر منح التنظيم عاماً كاملا قبل أن يعقد مؤتمرا يناقش آليات تطوير الديمقراطية المصرية، وأبشر الحضور بأن الخريف المقبل لن يأتى والإخوان فى الحكم أو ومعارضوهم أحياء أو أحياء خارج السجون. وبالتأكيد كان رئيس الجامعة الأمريكية العريقة لا يعلم أن من بين الحضور من يرى أن أزمة تطور الديمقراطية فى مصر والمنطقة تعود بالدرجة الأولى للمواصفات الأمريكية للديمقراطية.!
باختصار كان السيد رئيس الجامعة الأمريكية والوفد المرافق له راضين تماما عن وصول التنظيم للحكم من جهة، وعن حالة المعارضة الرصينة غير المجسدة لحجم التهديد لثبات الدولة المصرية بسبب استيلاء التنظيم على الحكم من جهة أخري. وكأن صوتا داخليا من الوعى الأمريكى الراعى للقاء يقول لمكونات المشهد السابقة (استمروا يا ولاد هى دى الديمقراطية الأمريكية كما رسمت الخطة)، وهذا الصوت تردد فيما بعد صراحة فى عدد من اللقاءات دعانى لحضورها باحثون أمريكيون بعضهم عرف نفسه فى آخر اللقاءات بأنه يعمل فى مؤسسة الأمن القومى الأمريكي! هذه المواقف مجتمعة قطعت داخلى كلَ شك بيقين واحد هو أن الديمقراطية الأمريكية لا تنبع من الحقوق الإنسانية للشعوب، قدر كونها تنطلق من الحلم الأمريكى فى السيطرة على العالم. أو بمعنى أدق هى واحدة من وسائل أمريكية عبرها يتم التحكم فى العالم وتوجيهه صوب المشروع الأمريكي. إنها واحدة من أدوات تجيب على السؤال الذى طرحه أوباما أمام كلية الحرب الأمريكية حين قال (إن السؤال الذى يجب أن نواجهه ليس هل تحكم أمريكا العالم ولكن كيف تحكم أمريكا العالم؟). وحتى نستوعب بعض ملامح الإجابة على سؤال السيد «أوباما» يجب التوقف عند مصطلحات من عينة (حقوق الأقليات - حقوق المرأة - الحريات الدينية - الديمقراطية - الحرية الجنسية) هذه المصطلحات وغيرها من عناوين تستحق نضالا حقيقيا من الشعوب لتحقيقها، مجرد لافتات أمريكية ظاهرها الرحمة وباطنها من قبلها المشروع الأمريكي.
إن الديمقراطية الأمريكية التى تحكم العالم حاليا يمكن إجمال منجزات حالتها الحقوقية والديمقراطية فى فيلم قصير يحمل لقطات متتاعبة ثابتة للإنسان فى كل من (أفغانستان- السودان - العراق - سوريا - ليبيا -اليمن)، على أن يكون مشهد النهاية لـ أوباما وهو يتساءل فى كلية الحرب (كيف تحكم أمريكا العالم)؟، ومن ثم تُظلم الشاشة فيما يكتب اللون الأحمر القانى (تحكم أمريكا العالم بإسقاط الدول العريقة والحضارات القديمة). ولا تمل الآلة الأمريكية من تصدير مصطلحات جديدة قابلة لتجاوز كل محاولات الشعوب التنبه لحقيقة المشروع الأمريكى ومواجهته، إنها المراوغة التى تدربت عليها الماكينة الإعلامية الأمريكية وهى تدير معاركها فى فراغ المفاوضات الفلسطينية مع الربيبة الصهيونية.
إنه نموذج واحد للهدم يتم تطويره كل حين، فهو (الديمقراطية) التى قد تسمى (إصلاحات) أو (حوارات مجتمعية)، وربما (توسيع المشاركة النسائية)، وفى الحالة المصرية الراهنة تحصل على اسم (عدالة انتقالية). وفور إنتاج المصطلح تعمل كل الأجهزة الداعمة للنظام الأمريكى على تسويقه باعتباره الحل السحرى الذى يضمن للشعب أن يخطو أولى خطواته على طريق الدولة المدنية أمريكية الصنع.
ما يستدعى التنبه حاليا فى المشهد المصري، هو أن فشلا ذريعا مُنى به التنظيم الإخوانى وخطته لإسقاط الوطن فى 25 يناير 2016، فشل جاء مبددا لكل حلم تنظيمى فى التماهى مع مسلسل إسقاط الدول الذى يحاصرنا حاليا، وفشل أطلق آخر سهام الصبر فى القوس الأمريكي، وصار لزاما على بلاد العم سام التحرك للحفاظ على خميرة تنظيمية قابلة -مع بعض الوقت- للنمو وإعادة الكَرَّة فى استهداف الوطن، وبالتأكيد سيكون لهذه الجولة مصطلحاتها وعلى رأسها (العدالة الانتقالية).
وللحديث بقية.