هل تدرون ما هو أثقل حمل فى الوجود؟! إنه نعش الولد عندما يحمله والده على كتفه ليواريه الثرى! تلك المقولة البليغة قالها شيخ ضرير حين تحسّس قسمات الشاب القتيل وأدرك أنه ابنه. تذكّر النقيب «حسام شرف الدين» تلك الكلمات الموجعة حين رأى الدموع تنهمر لتحفر أخاديد على وجه الحاج زكريا، وسط تدافع الآلاف من المشيعين، وصيحات الدعاء والغضب تدوى فى سماء القرية مثل الرعد.
وقف الحج زكريا ينظر بعين زائغة لنعش ولده الشهيد محمد أبوغزالة، وقد انحنى ظهره وناءت قدماه بحمل جسده المنهك مردداً: «عوضى عليك يا رب.. عوضى عليك يا رب»، وأصر أن يؤم صلاة الجنازة على فلذة كبده بنفسه، وسط أصوات النحيب والبكاء التى هزت أرجاء المسجد، رمق الحاج زكريا نعش ابنه وهو يرتفع فوق أكتاف المشيعين المتنافسين على حمله، وأشار لهم أن يُفسحوا له مكاناً ليحمل معهم أثقل حمل فى الوجود يمكن أن يتحمله إنسان!
أما خطيبته «سمر» التى جمع الحب بينها وبينه، فبعد استشهاد محمد كتبت خطاباً للقائد العام الفريق صدقى صبحى، وزير الدفاع، تسأله: «هل يحق لى أن ألبس بدلته وأحمل سلاحه وآخذ مكانه فى كرم القواديس المكان الذى استشهد فيه؟ وإذا كان لا يحق لى ذلك فأرجو منحى فرصة العمل فى المستشفى العسكرى، كى أكمل مسيرة الشهيد فى الدفاع عن بلدى التى بذل روحه فداها، فهو من علمنى التضحية والفداء من أجل الوطن، محمد كان يتمنى الشهادة ونالها، لقد اشترينا فستان الفرح وبدلة الزفاف، وطبعنا كروت الفرح، لكن خطيبى استشهد وزُفّ إلى السماء، وقد قررت ألا أتزوج وأعيش على ذكراه حتى يوم ألقاه فى الجنة».
لقى محمد ربه بداية شهر محرم فى الهجوم على كمين كرم القواديس، لم يكتف أصحاب الفكر الشيطانى الملتحف برداء الدين بقتله وزملائه غدراً فى الأشهر الحُرم، بل تفاخروا وتباهوا بقتلهم فى بيان على موقعهم الإلكترونى!
نشأ والد الشهيد حسام يتيماً، فلم يكن قد أتم عامه الأول حين استشهد الجد فى حرب 67، وفضّل أن يدرس الهندسة، وحين التحق هو بالجيش وارتدى زى الكلية الحربية لأول مرة أطلقت جدته «زغرودة» طويلة واحتضنته قائلة: أنت من سيأخذ بثأر جدك، فرد والده: «ثأر أبى أخذه زملاؤه فى حرب 73 والحمد لله سيناء عادت لنا»، فنظرت الجدة بغضب وقالت: «المشوار لسه طويل، لسه فلسطين والجولان.. والقدس، ولا نسيت القدس؟». ابتسم النقيب حسام بمرارة وهو يتذكر كلمات الجدة رحمها الله، وتساءل: ترى ماذا كانت تقول لو عرفت أن الذين يقاتلوننا اليوم ليسوا إسرائيليين، بل مصريون وفلسطينيون، وأنهم يقتلوننا باسم الله والإسلام، ويكبرون ويهللون فرحاً عند قتلنا، مثلما نكبر عند ذبح الأضاحى، ويطلقون علينا جيش الردة؟!! وحمداً لله أنه اختار جدته إلى جواره قبل أن ترى هذه الأيام السوداء التى أدار فيها الإرهابيون أعداء الحياة ظهورهم للعدو، ووجهوا طلقاتهم نحونا!!
ترك النقيب حسام شريط الذكريات وراح يتصفح صور الشهيد «أحمد عبدالسلام» مع زوجته، وابنه «إياد» الذى ورث عنه عينيه المعبرتين ونظراته الواثقة، كان والده صارماً فى تربيته، يتمنى أن يراه مثله ويريد أن يُلحقه بالجيش ليتسلم منه الأمانة، وكانت عينا النقيب أحمد تلمعان فخراً وفرحاً حين يناديه أهل سيناء بأبى إياد، وتوقف أمام صورة أخرى للنقيب أحمد بالملابس المدنية وقد وضع علم مصر على كتفيه وغطى به صدره، مثلما أحاط العلم بنعشه بأكبر جنازة فى تاريخ كفر الشيخ، قالت زوجته بعد استشهاده: كان نفسى أتزوج ضابط ولكن لما شفت أحمد تمنيت أن يكون هو زوجى، وحين حذرنى من خطورة الارتباط بضابط، قلت له: «لو هنعيش شهر هعيشه معاك انت»، وعشت معه ثلاث سنوات زواج وخطوبة، أعطانى فيها من الحنان والحب والأمان ما يكفينى العمر كله، وكان دائماً يعدنى لمواجهة الحياة والاعتماد على نفسى، ويقول لى: أريدك قوية فالمقبل أصعب!
الطفل مازن أحد أفراد العائلة كتب على صفحة الشهيد أحمد يقول: «كان نفسى لما أكبر أكون مهندس.. لكن علشانك والله يا عمو هادخل الكلية الحربية وآخذ بثأرك من هؤلاء الإرهابين».
ولحديثى معكم عن الأبطال بقية إن شاء الله.