مؤمن الهباء
شهادة-التأمين الصحي الذي نريده
بعيداً عن الصياغات القانونية والتصريحات السياسية الموغلة في الإبهار والتي تحمل دائما أكثر من وجه وأكثر من تفسير.. فان التأمين الصحي الذي نريده ببساطة وتركيز يعني أن ندفع اشتراكا معقولا من دخلنا في سنوات عملنا وصحتنا حتي اذا أصابنا المرض أو أصابتنا الشيخوخة وجدنا رعاية صحية علي مستوي لائق انسانيا.. لا يجعلنا عاجزين عن العلاج بسبب التكلفة الباهظة في المستشفيات والعيادات الاستثمارية.. ولا يتركنا للبهدلة والمرمطة في المستشفيات العامة التي تحولت الي سلخانات والعيادات الرخيصة التي تخصصت في إذلال المرضي.
والحقيقة أن مستوي الرعاية الصحية في مصر الآن لا يمت الي الانسانية بصلة.. ويعاني من التمييز الفج ضد الفقراء ومحدودي الدخل من الموظفين وأصحاب المعاشات الذين لا يستطيعون الوصول الي أصحاب القرار للحصول علي علاج علي نفقة الدولة.. ويموتون كمداً وعجزاًَ وحزناً.. بينما يتمتع الأغنياء القادرون ماليا بمستوي علاجي "خمسة نجوم" وعلي حساب الدولة في الداخل أو الخارج.
وحتي مستشفيات التأمين الصحي تعاني من التكدس والعجز في ظل القانون الحالي الذي لا يوفر لها مصادر تمويل كافية.. وهذا القانون عمره خمسون عاما.. ومن ثم كان لابد من تغييره ليواكب المتغيرات الكثيرة التي طرأت علي المجتمع.. وبالفعل أعدت الحكومة مشروع قانون جديد باسم "مشروع قانون التأمين الصحي الاجتماعي الشامل".. وأهم ما فيه أنه يشمل كافة قطاعات المجتمع.
لكن المشكلة أن هذا المشروع أثار معارضة واسعة.. وقالت "الأهرام" انه يتضمن 3 مميزات و13 سببا لرفضه.. وبالتالي تم تشكيل لجنة وزارية لبحث أسباب الرفض وتعديلها.. خاصة تلك الأسباب المقدمة من اتحاد نقابات المهن الطبية.. والتي تتركز في الخوف من أن يتحول مشروع التأمين الصحي من نظام تكافلي لا يهدف للربح الي سلعة للبيع يتحمل المريض مخاطر الاتجار فيها.. وتصبح حياة الانسان مرهونة بمؤشرها في السوق.. ويظل ثمنها متأرجحا ارتفاعا أو انخفاضا حسب مستوي المستشفي. عام أو خاص.
ودون الدخول في تفاصيل مشروع التأمين الجديد فالواضح انه سيلقي علي عاتق هيئة التأمين الصحي المسئولية الكاملة التي تتحملها الدولة وأقرها الدستور لتوفير رعاية صحية لائقة للمواطنين.. وسيكون هناك فصل بين 3 هيئات يتم استحداثها: هيئة التمويل. وهيئة الرعاية. وهيئة الرقابة الصحية.. وهذه الهيئات ستكون مستقلة بهدف تحسين مستوي الخدمة.. ولكن هل من الممكن أن تتحقق لها الاستقلالية فعلا في ضوء تبعيتها لمجلس الوزراء.. ناهيك عن أن كل أعضاء هيئة مجلس ادارة هيئة الرقابة سيتم تعيينهم من قبل رئيس مجلس الوزراء ولا يوجد منتخبون لتمثيل مقدمي الخدمة ـ الأطباء ـ أو المنتفعين بها ـ المرضي ـ علما بأن التأمين الصحي بوضعه الحالي يلتزم بتمثيل نقابات المهن الطبية في مجلس ادارته.. وعلي هذا فنحن أمام تراجع واقعي في مسألة الاستقلالية ومسألة الرقابة علي النظام الصحي.
وبكل صراحة.. لا نريد أن نجد أنفسنا في النهاية أمام تأمين صحي اجتماعي المظهر تجاري الجوهر.. يحمل اسما جذابا وعنوانا براقا ويخفي في داخله مشروعا استثماريا.. يوجه الاشتراكات والمساعدات وميزانية الصحة لصالح القطاع الخاص.. ونكتشف أنه كان الخطوة الأولي علي طريق خصخصة القطاع الصحي.
كثيرة هي تجاربنا السلبية مع العناوين البراقة الخادعة.. لذلك أصبحنا "ننفخ في الزبادي".. ونطالب بضمانات حقيقية لا صياغات فضفاضة من قبيل "الدولة ستتحمل اشتراكات غير القادرين".. نحن نريد عقدا واضحا صريحا.. سيدفع المشترك هذا القدر من دخله.. وسيحصل علي علاج بهذا القدر في مرضه.. ولو نجحنا في ذلك فستكون هذه هي أول خطوة جادة وحقيقية لتطبيق شعار "العدالة الاجتماعية والكرامة الانسانية".
دعونا ننتظر ونراقب.