الوطن
د. محمود خليل
درس فى الإصلاح
كان نبى الله «شعيب»، عليه السلام، مصلحاً من طراز فريد، وجوهر التفرد فى تجربته يرتبط بقدرته على اكتشاف جوهر الفساد فى المجتمعات، والتحديد الملهم لأداة الإصلاح وتصحيح الأوضاع المعوجة. يقول الله تعالى فى كتابه الكريم: «وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ». اختلال الميزان أصل الفساد فى المجتمع، وعدالة الميزان الأداة الكبرى للإصلاح. سرقة حقوق الغير وكنزها فى البطون والأراضى والعمائر سمت المفسد فى كل زمان ومكان، ولا يتوقف الأمر عند غش الناس وانتقاص حقوقهم المادية، بل يمتد إلى ما هو معنوى، فالبخس لا يتعلق بسلع الحياة المادية وفقط، بل يسعى المفسد إلى أن يبخس مَن حوله ما يتمتعون به من قدرات، ويجتهد فى حرمانهم من الاستفادة منها وإفادة من حولهم بها. فعبارة «وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ» عبارة جامعة شاملة لكل الأشياء التى تُصلح حياة الناس، ويؤدى بخسها إلى إفساد أحوالهم. دعوة العدل ببساطة هى جوهر الإصلاح فى أى مجتمع، والميزان الدقيق للحقوق المادية والمعنوية أداته.

والمتأمل للتجربة الإصلاحية لـ«شعيب» يجد أنه كان يستند إلى حزمة من المبادئ الفريدة من نوعها، تلخصها الآية الكريمة التى تقول: «قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ». تحدد هذه الآية مبادئ الإصلاح، وأولها أن يكون المصلح محدد الهدف، واعياً بالأدوات، بعبارة أخرى أن يكون ذا بصيرة وفهم للأوضاع المحيطة به، ثانيها أن يكون قدوة، بحيث لا يُنهى عن أمر أو فعل أو مفسدة ويأتى مثلها، وبذا يستطيع أن يؤثر فى غيره. المصلح مطالَب بألا يفعل ما ينهى عنه المفسدين، ولو بالسكوت، وعليه إذا علم بوجود حالة فساد فى أى موضع أن يواجه، دون تردد أو حسابات. من المبادئ الأخرى التى تشتمل عليها الآية الكريمة أن على المصلح أن يفهم أن تقويم الاعوجاج داخل المجتمع، لا يعنى إصلاح الكون، وأن شخصاً بمفرده ليس بمقدوره أن يفعل ذلك. فالإصلاح عمل جماعى، مسئولية الفرد فيه أن يصلح فى مجاله قدر ما يستطيع، وعليه بعد ذلك أن ينتظر الجزاء من الله، وألا يطلب من الناس أن يضعوا فوق رأسه أكاليل الغار لأنه أصلح، فقد فعل ذلك لأنه ليس فاسداً.

تلك هى التجربة الأعظم للفكر الإصلاحى التى خاضها نبى الله شعيب، التى يجب أن يستوعبها كل مصلح، وأن يتعلم منها، وأن يحذو حذو صاحبها إذا كان يريد تقويم الأوضاع من حوله. لا يكفى فى الدنيا الإصلاح بالنوايا الحسنة ولا الأمانى الطيبة، بل لا بد من فعل وسَعْى ومواجهة، وإلا تحول الأمر إلى مجرد ترديد لشعارات، ليجلس صاحبها بعد ذلك فى الشمس، منتظراً الثمن!.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف