نصف الدنيا
نوال مصطفى
الصديقان
يرن جرس «الموبايل» أمام «طارق» على المكتب.. ينظر إلى الشاشة فيقرأ اسم «أحمد خيري».. تتسارع دقات قلبه ويرتبك.. قلق لا إرادي يعتريه لمجرد رؤية اسم صديقه الحميم على شاشة «الموبايل».

يضغط أخيرًا على زر التليفون مجيبًا صديقه القديم:

- آلو.. أهلاً يا «أحمد» ..

بسخرية وعتاب:

- والله كنت فاكرك سافرت، إيه يا سيدي.. ما أسكت الله لك حِسًّا.

تتداخل نبرات صوت «طارق» وتضطرب.. يرد بكلمات لاهثة:

- لا.. أبدًا يا «أحمد».. أنا كنت مشغولاً جدًّا في البحث.. الوقت سرقني.. أنا آسف يا «أحمد».. أرجو أنك تقدِّر ظروفي.. لكن كل ده مش هيمنعني إني أشوفك قبل ما أسافر طبعًا.

بلهجة ساخرة متهكمة يقول «أحمد» :

- بحث الذاكرة إياه هو اللي خدك مننا.. والله يا «طارق» أنت و»شهد» عاوزين مصحة.. والله يا ابني.. فيه حد ينسى الحاضر ويفكر في الماضي والذاكرة؟ إييييه.. ربنا يهديكم.

ويتحول «أحمد» للنبرة الجادة قائلاً:

- المهم يا «طارق».. أنا عاوز أقابلك ضروري جدًّا.. في أقرب وقت.. فيه موضوع مهم عاوز أكلمك فيه.

«طارق» بتلعثم:

- إيه رأيك نتعشى مع بعض بكرة كلنا في «الباشا»؟

«أحمد» بنبرةٍ حاسمةٍ:

- لا يا «طارق».. أنا عاوزك لوحدك.. مش عاوز حد معانا المرة دي بالذات.

يزداد ارتباك «طارق» وتتسارع دقات قلبه ويقول:

- بكرة الساعة واحدة بعد الضهر في «شبرد».. يناسبك الميعاد ده؟

- يناسبني جدًّا.. إلى اللقاء يا لورد.

***

في الطريق إلى «شبرد»، تسابقت الأفكار السوداء لتقفز في رأس «طارق»، وتسلبه القدرة على صدها ومقاومتها.

هل اكتشف «أحمد» أسرار وخبايا علاقته بـ»شهد»؟ هل طلب أن يلتقيا منفرديْن حتى يواجهه بتلك القنبلة المدوية، وينتظر رد فعله واستقباله لتلك المفاجأة أو المصيبة؟

وإذا كان هذا هو الأمر المهم الذي طلب «أحمد» أن يكون لقاؤهما سريًّا بسببه، فإلامَ يهدف تحديدًا؟ هل يريد أن يعنفه ويحاسبه ويلقي في وجهه تهمة الخيانة العظمى لصداقة العمر كله؟ أم أنه سوف يناور ويراوغ حتى يحصل على اعتراف كامل منه بأنه على علاقة سرية بزوجته «شهد» ويكشف له مدى هذه العلاقة، وإلى أي حد وصلت في اختراق الحواجز والأخلاق والضمير؟

أما «أحمد» فكان مشغولاً أيضًا بالتفكير في هذا اللقاء.. قلقًا للغاية.. متوترًا.. أسئلة كثيرة تتزاحم في رأسه: كيف سيستقبل «طارق» المفاجأة التي سوف ألقيها في وجهه كقنبلة؟ هل سيكون متفهمًا مقدرًا لمشاعري محترمًا لقراري؟ أم أنه - كعادته - سوف يجادل ويبرر ويحاور ويدافع ويبحث عن أسباب؟

- مهما كان رد فعله فلا بد من المواجهة.. لا أستطيع أن أبقي هذا الأمر سرًّا أكثر من ذلك.. لا بد أن يعرف «طارق».. لا بد أن أزيح هذا الحمل الثقيل عن قلبي.

***

وضع الـ»متر دوتيل» فنجانيْ القهوة أمام «طارق» و»أحمد».. سادت لحظات من الصمت بعدها بدأ «أحمد» الحديث مقتحمًا لحظات التوتر والترقب:

- الموضوع يا «طارق» باختصار يخص «شهد»، وكان لازم أكلمك وجهًا لوجه.. وطلبت نتقابل لوحدنا علشان أصارحك بكل حاجة.

دق قلب «طارق» دقات متسارعةً.. ارتفع مستوى التوتر والقلق إلى أعلى نقطة.. لم يتكلم.. صمت تمامًا، وهو يحدق في عينيْ «أحمد»، ويحاول اختراق ما وراءهما.

استطرد «أحمد» قائلاً:

- طبعًا انت عارف إن العلاقة بيني وبين «شهد» صارت علاقة أخوية أكثر من أي شيء.

بلع «طارق» ريقه وهزَّ رأسه مؤيدًا كلام «أحمد» الذي أكمل كلامه:

- وانت عارف يا «طارق» إن «شهد» غالية جدًّا عليَّ.. دي عِشْرة عُمر، وأم «سارة» و»سيف».. إنسانة ملهاش زي.

قاطعه «طارق»:

- طيب فين المشكلة؟

- المشكلة إني رجل.. لي رغبات لازم أشبعها، والرغبات دي ماتت مع «شهد».

- والحل؟

- الحل إني أشبعها مع امرأةٍ أخرى.. امرأة تحرِّك رجولتي وتحفِّزها.

- تقصد «فاتن»؟

- أيوه «فاتن».. «فاتن» يا «طارق» هي «الموديل» بتاعي.. كأنها اتخلقت علشاني.. كيمياء الأنثى جواها مظبوطة على كيمياء رجولتي.. يا أخي فيه أسرار في الإنسان مش ممكن نوصل لحل شفرتها أبدًا.. «شهد» و»فاتن» مثلاً.. هم الاتنين نسوان، واحدة تموِّت الرغبة.. عندك وواحدة تشعلها كالجمر.

- وإيه الموضوع اللي عاوز تكلمني فيه؟ إيه اللي في دماغك يا «أحمد»؟

يتحرَّك «أحمد» من مقعده منفسًا عن القلق الذي ينتاب الإنسان قبل الإفصاح عن سر أو شىء يتوقع أن يُحدث رد فعل صادمًا للآخر، ثم يبدأ الكلام:

- أنا بفكر أتجوز «فاتن» يا «طارق».. نفسي أعيش بوجه واحد.. نفسي أرضي ربنا وأبطل أنام معاها في الحرام، العملية قربت والزمن بيجري بينا، وكلها كام سنة ونقابل ربنا.. عاوز أقابله وأنا نضيف.. عاوز أغسل النجاسة اللي عايش فيها طول عمري يا «أحمد».. انت عارف إني بأصلي وأصوم.. حجيت سبع مرات وكل سنة بعمل عُمرة، يعني مش ناقصني غير الحتة دي.. مش عاوز أزني بعد كده يا «طارق».

ينظر في عينيْ صديقه الحميم منتظرًا رد فعله.. يصمت «طارق» بعد أن أنصت جيدًا لكل كلمة قالها «أحمد».. وكل تعبير طفا على وجهه، وهو يبوح بما ينوي فعله.. فهل كان صمت «طارق» فرصة لأخذ نَفَسٍ عميقٍ بعدما تأكد الآن أن الأمر الجلل الذي طلب «أحمد» مقابلته بشأنه لا يتعلق بعلاقته بـ»شهد»؟ أم كان محاولة للم أشتات نفسه بعدما اطمأن الآن أنه لا يواجه اتهامًا خطيرًا بالخيانة العظمى من صديق عمره؟

هل كان يرغب في لحظات من الهدوء والتفكير والتأمُّل لهذا الخبر الغريب، الذي ألقاه «أحمد» في وجهه مثل حجر جارح؟

أفاق «طارق» من صمته وتأمله على صوت «أحمد»:

- إيه يا أخي.. مالك ساكت ليه؟ هو أنا جاي أكلم نفسي؟ رد يا «طارق».. إيه رأيك في الموضوع ده؟ انت شايف إيه؟

- شايف إنك لازم تقول لـ»شهد».. من حقها بعد العمر ده كله إنها تقرر هل تقبل الوضع ده أو ترفضه.

- لكن أنا هتجوز «فاتن» في السر يا «طارق».. محدش هيعرف، وأنا بطلب منك تكون شاهد على جوازنا.. انت وعم «أحمد» السوَّاق بتاعي وكاتم أسراري.

بحدة وحسم يرد «طارق»:

- أنا مش ممكن أشترك في عملية غدر وخداع يا «أحمد».. من حق «شهد» إنها تعرف، ومن حقها تقرر إزاي تعيش حياتها.. يا أخي لازم تعترف إنها إنسانة على الأقل.. إنسانة لها مشاعر.. مش حجر.

لاحظ «أحمد» انفعال «طارق» وتأثره الواضح بمحنة «شهد».. سادت ثوانٍ من الصمت بينهما اخترقه صوت «أحمد» الملىء بالشجن:

- إذا كنت شايف كده يبقى لازم انت اللي تكلمها وتفتح لها الموضوع بطريقتك.. أنا.. أنا...

ويختنق صوته بالبكاء المكتوم، بينما تلمع في عينيه دموع يمسكها بصعوبة، لكنها تنفلت رغمًا عنه في لحظة مفعمة بالأسى:

- أنا بصراحة يا «طارق» مش هقدر أواجه «شهد».. هضعف ويمكن أركع قدامها وأبوس رجليها.

- والمطلوب مني يا «أحمد»؟

- أرجوك.. كلمها انت.. هي مقتنعة بك.. فهمها إنها غالية وستظل كذلك للأبد في حياتي.. قل لها إني أتمنى أن تبقى معي وبيننا أولادنا، وأن ترتفع فوق كل شىء.. بقاؤها وسطنا سيكمل فرحتي، لكن إذا أصرَّت على الطلاق - وهذا ما أعتقد أنها ستختاره - فقل لها إنني سأشتري لها شقة في المكان الذي تختاره، وهيكون لها مصروف شهري، وأي طلبات لها مجابة.

اخترقت نظرات «طارق» «أحمد» دون أن ينبس بكلمة.. استأذنه في الانصراف ووعده بأن يفعل ما طلبه منه.. سيواجه هو «شهد».. سيقول لها إن زوجها الدكتور «أحمد» سوف يتزوج من امرأةٍ أخرى بعد أكثر من ربع قرن من زواج وحب وعِشْرة وأولاد، وسوف يخبرها بأن الزوج النبيل مستعد لتلبية كل طلباتها امتنانًا لإنسانةٍ فعلت الكثير من أجله.. إنسانة يحمل لها كل الحب والاحترام حتى تلك اللحظة الحرجة في مسيرة علاقتهما.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف