عباس الطرابيلى
هموم مصرية- أولاد الشوارع.. ونقص الملاجئ
هل أغنياء زمان، كانوا أكثر وفاء للمجتمع، من الأغنياء الآن؟.. وهل كان من يملكون المال ـ زمان ـ أكثر إحساساً بواجبهم تجاه المجتمع.. أقول ذلك لأنهم زمان «يحسون» أكثر بآلام الناس.. وكانت بيوتهم مفتوحة ـ دائماً ـ للبسطاء والأهم كانوا يرعون حق الله فيمن حولهم..
بل أري أن من أهم أسباب تزايد مأساة أطفال الشوارع الآن عزوف الأغنياء عن العمل الاجتماعي. ومن مظاهر ذلك أن معظمهم يعيشون الآن في أحياء بعيدة عن حياة العاديين.. من البسطاء. وأصبحوا ـ معظمهم ـ يتحصنون داخل تجمعات سكانية أو كومباوندات تحيط بها الأسوار ويحرسها الأمن الخاص.. ولا يعرف من يعيش خارجها شيئاً عن حياة هؤلاء داخل هذه القلاع الحصينة، حتي عن عيون الناس.
<< وكانت العائلات الكبيرة تمد يدها. كانوا يبنون الملاجئ ودور الإيواء للفقراء.. أو للمشردين.. للبنين.. وللبنات. بل كانوا يقيمون العيادات والمستشفيات علي نفقتهم الخاصة تستقبل المرضي وتعالجهم.. وتطعمهم.. ولم تكن أي مدينة تخلو من ملجأ للأيتام وأبناء الشوارع.. أو عيادة خاصة مجانية.. وكان كل واحد من رجال الأعمال ـ زمان ـ يفعل ذلك دون أن تطلب منه الدولة ذلك.. بل إن دمياط مازالت تتذكر رجل الخير والبر الذي أنشأ أول ـ وأكبر مستشفي للأمراض الصدرية علي حواف شرق المدينة علي مساحة هائلة.. وقام بتجهيزه وفرشه بالكامل وقدمه للحكومة لتتولي إدارته.. أو رجل المقاولات الشهير في مدينة فارسكور الذي بني داراً للأيتام وقدمها للدولة لتديرها.. أو العائلة التي أقامت مدرستين متكاملتين وقدمتهما لوزارة التربية والتعليم.. وحملت الأولي اسم رب الأسرة.. وحملت الثانية اسم زوجته.
<< عرفت مصر ذلك ـ في كل عصورها ـ تماماً كما عرفته خلال القرن الماضي كله.. لأن أغنياءها كانوا يعرفون معني الوفاء للوطن الذي لولاه.. لما جنوا كل الثروات التي جمعوها.. وانتشرت هذه الأعمال الخيرية في بحري والصعيد، علي السواء.. بل كان الكل: مسلمين ومسيحيين يتسابقون لأداء هذا الواجب وليس فقط في التسابق لبناء المساجد وكم من أسرة مسيحية ساهمت في بناء المساجد.. قبل أن يسرعوا في اقامة الكنائس..
<< بل كان أمراء العائلة ـ المالكة ـ أسرة محمد علي باشا ـ في مقدمة من تبرع من أمواله ومجوهراته وأراضيه لبناء المدارس والمستشفيات والمبرات والملاجئ.. وليس فقط المشهورين من الأسرة الحاكمة.. وفي المقدمة الأميرة فاطمة بنت الخديو اسماعيل، التي كلفت أكبر المساهمين بإنشاء الجامعة المصرية. وقدمت قصرها ـ بعد ذلك ـ لأخيها الملك فؤاد لكي يتحول إلي أول متحف زراعي في الشرق كله.. ولا الأمير كمال الدين حسين ابن السلطان حسين الذي قدم قصره ـ في ميدان التحرير الآن ـ ليصبح مقراً لوزارة الخارجية عقب تصريح 28 فبراير 1922. أو الأمير الرائع الذي قدم قصره في المطرية ليصبح مقراً لأول مرة لمعهد بحوث الصحراء ولا الأميرة شويكار التي قدمت قصرها ليصبح مقراً لمجلس الوزراء أمام البرلمان..
<< كان كل قادر يمد يده للشعب ليرد الجميل في شكل خدمات ملاجىء وعيادات ومدارس.. لأن الدولة ـ مهما كانت إمكاناتها ـ لا تستطيع توفير كل شيء.. حقيقة الآن ـ يتم خصم أعباء هذه الأعمال الخيرية من الضرائب.. ولكن هذا لم يشجع الكثيرين علي زيادة تبرعاتهم للشعب..
وربما يقول البعض إنهم يقدمون الآن بعض أموالهم لصندوق تحيا مصر ـ وهم بذلك مشكورون ـ ولكننا نلح علي فكرة أن يقوموا هم بإنشاء مثل هذه المشروعات الخيرية.. حتي ولو لم يتم خصم تكاليفها من الضرائب..
<< ان واجب رجال المال والأعمال أن يساهموا في التخفيف من أعباء الفقراء والمحتاجين. فلماذا لا ينشئ كل واحد منهم ـ وبالقرب من مصانعه ـ ملجأ للأيتام لنخفف أعباء الدولة.. ونواجه واحدة من أخطر مشاكلنا الحالية.. وهي «أطفال الشوارع». والمؤلم أن انشاء الملاجئ والعيادات انخفض في العصر الناصري بحجة أن الدولة عليها أن تقوم بذلك.. وكان هذا فهما خاطئاً لمعاني التكافل الاجتماعي.