يقول ابن قدامة المقدسى - رحمه الله تعالى - فى شرح وتفسير حديث الجيران ثلاثة: (واعلم: أنه ليس حق الجوار كف الأذى فقط، بل احتمال الأذى والرفق، وابتداء الخير، وأن يبدأ جاره بالسلام، ولا يطيل معهم الكلام، ويعوده فى المرض، ويعزيه فى المصيبة، ويهنئه فى الفرح، ويصفح عن زلاته، ولا يطلع إلى داره، ولا يضايقه فى وضع الخشب على جداره، ولا فى صب الماء فى ميزابه، ولا فى طرح التراب فى فنائه، ولا يتبعه النظر فيما يحمله إلى داره، ويستر ما ينكشف من عوراته، ولا يتسمع عليه كلامه، ويغض طرفه عن حرمه، ويلاحظ حوائج أهله إذا غاب».
أقول: ما أجمل الإسلام وما أجمل هذا الفقه الوسطى العظيم الذى يحترم الإنسان أيًا كانت معتقداته ودينه. إن الإسلام - أيها القرّاء- يحترم الإنسان، أى إنسان، يحترم فيه الإنسانية، وبنى آدميته، سواء أكان مسلمًا أو من أهل الكتاب أو من غير هؤلاء، حتى عبدة الأوثان، ومفاتيح الجنة والنار ليست فى يد أحد من البشر. «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ».
كيف يقبل مسلم عاقل أن يأتى إنسان غير مسلم ما ليهنئه بعيده، ولا يذهب هو لتهنئته فى أعياده؟ والله تعالى يقول «وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا». وهذا أقل الواجب. أعرف قصصًا عديدة من ذلك الباب. هناك من قال للمسيحيين لا أريد منكم تهنئة، ظنًا أن ذلك يرضى الله تعالى. علمنا الإسلام بل أمرنا أن نقول «قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِىَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِىَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»
مرة أخرى كيف يبيح القرآن الكريم للمسلم الزواج من الكتابيات، وطبعًا بذلك الزواج أصبحت هناك حقوق عديدة «وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً». وقد فعله النبى - محمد صلى الله عليه وسلم - من زواجه بمارية القبطية، كيف يقبل عاقل هذا ولا يوجب تهنئتهم ؟ وكيف نقبل الهدايا والتهنئة منهم ولا نهنئهم فى أعيادهم ؟
أقول أن المودة والرحمة والبر والقسط، غير الموالاة للظالمين والمحاربين من أهل الكتاب أو من غيرهم أو المسارعة فيهم خشية الأذى والدائرة، أو اتخاذ بطانة من أولئك وممن يكرهوننا، بل علينا أن نفهم وندرك قوله تعالى «عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ».
ويؤسفنى أن أقول للقراء الكرام أن معظم المانعين أو القائلين بحرمة التهنئة للمواطنين المسيحيين، هم ممن هلَّل وكبرَّ لفتوى الاستعانة بالقوات الأجنبية لحل مشاكل الخليج، رغم معرفتهم بقوة هؤلاء الذين يستعان بهم، والخشية من أطماعهم، ونسوا أن من قال بذلك رغم قوتهم التى يستعان بها، قد يدخل فى نطاق التحذير القرآنى «فَتَرَى الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ». لقد قارن هؤلاء بين استعانة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بعبد الله ابن أريقط، المشرك أو الكافر ليكون دليلًا للرسول - صلى الله عليه وسلم - فى الهجرة إلى المدينة، وبين استعانة أهل الخليج بالأمريكان والقوى الغربية لإخراج صدام حسين من الكويت، وذهب صدام حسين إلى ربه، وبقيت القواعد العسكرية الغربية فى الخليج. وليس هناك موقف مقاوم واضح من علماء الخليج لهذه القواعد العسكرية فى بلاد المسلمين، وانشغلوا بعدم تهنئة المسيحيين بأعياد الميلاد.
كم كان القياس فاسدًا، وكانت المقارنة ظالمة !!!. متى يتوب أو يثوب هؤلاء إلى عقلهم ورشدهم، ويدركوا أن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والظروف. وتهنئة من القلب للمسيحيين (النصارى) بعيد الميلاد، وفق شريعة الله التى قد يخطئ فى فهمها من يخطئ من الفقهاء، ثم وفق الدستور، ثم وفق الأدب والأخلاق. وقد جاءت البعثة المحمدية لإتمام مكارم الأخلاق، كما قال - صلى الله عليه وسلم - «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». فزيارتهم، والاهتمام بهم، وحسن جوارهم، من مكارم الأخلاق. وكل عام وأنتم جميعًا بخير وعافية وللحديث صلة. والله الموفق