التقيت الدكتور جمال شيحة أستاذ أمراض الكبد ورئيس جمعية رعاية مرضي الكبد بالمنصورة دون معرفة سابقة وجمعنا معاً فكرة إعداد فيلم وثائقي عن مستشفي ومعهد أبحاث الكبد بالمنصورة والذي يعد إنجازاً كبيراً ومشرفاً تحقق بجهود المجتمع المدني وتبرعات بعض القادرين من داخل وخارج مصر.. الدكتور جمال شيحة إنسان دماً ولحماً وشعوراً وعاطفة، وعالم جليل في تخصصه بأمراض الكبد وصاحب رسالة حقيقية كافح من أجل تحقيقها سنوات طوالاً خاصة بعد أن أطل غول الفيروس الكبدي سي على المصريين وتحديداً البسطاء والفقراء منذ عام 1989.. وبأخلاق فلاح من أشمون الرمان – دقهلية. درس الطب ونبغ في تخصصه احتضن الدكتور جمال شيحة حلمه بين ضلوعه وفي ذات الوقت حمل فوق ظهره أوجاع وآلام ملايين من فلاحي وبسطاء مصر خاصة في منطقة الدلتا.. أنشأ جمعية رعاية مرضي الكبد وتنقل بين قرى المنصورة ودمياط والغربية سنوات وأخذ يجمع البيانات ويدقق الإحصاءات حول الفيروس اللعين في وقت كان الضمير السياسي في مصر في غيبوبة تامة عن المخاطر التي تهدد الأمن القومي وفي مقدمتها مرض نهش كبد ما بين 12% و15% من المصريين لم يعرهم مبارك ورجاله أي اهتمام لأن ماكان يشغلهم أن ينافسوا فيروس سي في نهش لحم المصريين – كل بطريقته الفيروس يدمر الكبد والنظام يسلب الناس حقهم في الحياة الكريمة ويسرق حاضرهم ويصادر مستقبلهم.. المهم أن الدكتور جمال شيحة الذي تعاملت معه أثناء كتابة وتصوير الفيلم الوثائقي عن مستشفي ومعهد أبحاث الكبد بالمنصورة حيرني في البداية وأصابني بدهشة وتوجس عندما نسف بداخلي الصورة النمطية التي تعودنا أن نراها في أنصاف المتعلمين وأشباه العلماء من تحذلق وكبرياء مصطنع وتأفف لا معنى له.. لقد تعاملت مع عالم كبير بقدر ما يملك من علم وفلاح بسيط إلى أبعد مدى يجري بداخله نهر الزمن الجميل والأدب الجم والنفس المترفعة عن الأذي في أبسط صوره.. والحقيقة أنني لست بصدد مدح عالم جليل ولكني وجدت نفسي أمام أسئلة تؤرقني.. متي يفيق المجتمع في مصر ليعود مقدرا للعلم ولأصحاب العقول الراجحة والأخلاق السامية والرسالات النبيلة؟ إلى متى سنظل نملأ الدنيا صخباً ونحن نحتفي بأنصاف مواهب في مجالات مختلفة في حين نصاب بعشي علمي وأمية ثقافية وأخلاقية تجاه كل ما يحمل قيمة ويشع رقياً وأدباً؟ هذا الرجل الذي لم يجر وراء الاعلام ومسارح الشهرة الخادعة كان يجد متعته ولايزال حين ينجح مع مساعديه والمؤمنين معه برسالته في تخليص قرية بالكامل من فيروس سي القاتل.. ثروة جمال شيحة هائلة وباقية لأنها عبارة عن رأسمال اجتماعي في الضمير المصري، ولذلك فإن متعة وثروة جمال شيحة كانت ولاتزال في الاختلاط بالفلاحين والبسطاء بقرى الدلتا التي تنقل بينها حاملاً حلمه بعيداً عن صخب القاهرة ومهرجيها، وأعلم جيداً كم تحمل من مشقة وحرج أحياناً عند دعوته الكثيرين للمشاركة في انقاذ الملايين من غير القادرين ليس فقط على تكاليف العلاج ولكن حتى على إجراء التحاليل التي تحدد ما إذا كانوا مصابين أم لا.. ونجح الرجل وافتتح مستشفي ومعهد أبحاث الكبد على طريق المنصورة شربين وفق أرقي المعايير العالمية في تأسيس وبناء المستشفيات دون ضجة أو إعلانات تذكر أو استغلال في غير موضعه لحلم يجب احترام معانيه وتجلياته.. وقد سعدت كثيراً باختيار الرئيس عبدالفتاح السيسي للدكتور جمال شيحة ضمن الأعضاء المعينين بمجلس النواب وتمنيت أن يكون باقي المعينين على نفس الدرجة من الخبرات والقيمة ولكن متي أتت الرياح بما تشتهي السفن.. وختاماً أتمني أن تكون رحلة الاستاذ الدكتور جمال شيحة ابن «أشمون الرمان» ما بين البحث العلمي والأستاذية المستحقة وبين حلم الإنسان وارتباطه العضوي والأخلاقي بمجتمعه وأهله وناسه درس يستفيد منه اللاهثون خلف العلم القليل والكسب الوفير، واللاهثون خلف أضواء لا تكشف إلا عن قبحهم وفساد مقاصدهم.. تحية تقدير وعرفان لعالم جليل وإنسان اقتربت منه أسابيع قليلة فمنحني عمراً من الفضل.