الفن ليس لحظات عمل بين ساعات. أو أيام. استرخاء. إنه يتطلب المداومة والاستمرار. يذكرنا يحيي حقي عازف الكمان باجانيني: إذا انقطعت عن التمرن علي العزف ثلاثة أيام متتالية. تبين قصوري للجمهور. فإذا انقطعت يومين تبين للناقد الحساس. أما إذا انقطعت يوما واحدا. فلن يتبين قصوري إنسان سواي.
أصف - في الأجندة اليومية - يوما ما مضي من حياتي. بأنه يوم بلا عمل. يمثل - بالنسبة لي - يوما ضائعا. جهدا كان يجب أن أبذله. ولم أفعل.
أكره قضاء الوقت في أي شيء. عدا التأمل والقراءة والكتابة. إذا ابتعدت - لظروف العمل - عن القلم والأوراق. فإن ما أكتبه. ما بدأت في كتابته. يناوشني. تتحرك في وجداني شخصياته وأحداثه. حين أعود إلي ما كنت أكتبه. تسبقني اللهفة إلي ما فات. وإلي تعميق الملامح والقسمات.
أحيانا. يناوشني السؤال: هل سيذكرني الأهل والأصدقاء مثلما كان جارثيا ماركيث يتصور أن أبناءه سيتذكرونه به. وهو الحياة في غرفة صغيرة. تائها في دخان السجائر الأزرق الرجل الذي نادرا ما لاحظهم. يظهر فقط في أوقات تناول الطعام. ويجيب عن اسئلتهم بطريقة غامضة وهو شارد الذهن.
أجد نفسي في هذا الوصف. في معني الوصف. فلا صلة لي بدخان السجائر الأزرق. لأني لا أدخن السجائر. وإن ألفت العزلة. والخلو إلي قلمي وأوراقي وكتبي وتأملاتي. هذه هي حياتي منذ الصبا وحتي الآن.
أشار الصديق الراحل الدكتور محمود الشنيطي إلي انغماسي في ثالوث القراءة والتأمل والكتابة. قال: هذا انعكاس فترة المراهقة. ما نتعوده في تلك الفترة يظل بعض تكويننا إلي نهاية العمر: حب القراءة. حب الإبداع الأدبي أو الفني. دراسة التاريخ. إلخ.
تلك كانت ملاحظة الشنيطي في شبابي الباكر. وأظن أنها ملاحظة صحيحة تماما.
الروائي راهب - المعني وليس العمل - محب للعزلة. يميل للتأمل. منضبط. يحرص علي النظام. يهمل وقت الفراغ. أو وقت الفسحة. يستنيم إلي الدافع الرومانسي. هذه هي الصفات التي يري النقاد أنها لابد أن تتوافر في الروائي. لكي ينظم وقته وأوراقه وتأملاته وأفكاره. ويجود كتاباته. ما يهمني هو التركيز علي القراءة والكتابة. لا يشغلني ما قد يحيط بذلك من مظاهر وظواهر. الإجادة - وحدها - هي الوسيلة والهدف.
مع ذلك فإني أتمني - أحيانا - في انصرافي إلي القلم والأوراق. أن يقطع عزلتي صديق قدم لزيارتي. أعتبر زيارة الصديق فرصة للابتعاد عن جو القراءة والكتابة. جو يتلبسني. فلا استطيع أن أرفع رأسي إلا إذا انتزعت منه. أيا كان إقبالي علي عمل ما. انطلاقا من حبي له. فلابد من لحظات يحل فيها السأم. ساعة أو اثنتين أو ثلاث. ثم أتوقف. أشعر بحاجتي إلي فعل شيء مغاير. ويبدو لي كل شيء سخيفا وبلا معني.
قد أعاني - بعد فترة من التوقف - شعورا بالخوف يبلغ حد التصور أني لن استطيع الكتابة. أعرف أن موتي الحقيقي يوم أكف عن الكتابة. الأمر يجاوز التمني في قول نجيب محفوظ: "إنني أتمني أن يكون موتي في اليوم نفسه الذي أشعر فيه بفقدان القدرة علي مواصلة الكتابة".
موقف المبدع في داخلي - القراءة والتأمل وملاحظة الناس والأشياء ومحاولات الكتابة - يساوي - بالضبط - توقف الأنفاس في جسدي. يساوي الموت الجسدي.
لعلي أضيف أن العمر في النازل. وما أريد أن أعبر عنه يحتاج إلي أكثر من حياة.