كيف ارتبط هذا الرجل بجلبابه وتمسك به إلي هذا الحد وفي نفس الوقت درس الموسيقي إلي أعلي مستوياته وأنفق أغلب ما كسبه في شراء أجهزة حديثة.
هو الذي الذي كسر نمط المغني الرسمي الذي يقف أمام الميكرفون مثل المسمسار.. لا يتحرك إلا بحساب.. وهو أيضا الذي حول الغناء إلي فعل شعبي يمكن أن يتم في معرض أو ميدان أو ملعب.. وبالتالي جرد المستمع من سلبيته وحوله إلي كورس معه لا يكتمل المشهد الغنائي إلا به.
عرفته مبكراً بعد نجاحه المدوي في أغنية "مدد شدي حيلك يا بلد".. وكان اللقاء يتم غالباً في كواليس الشوادر التي يغني فيها.. وفي كل مرة كنت أجد عنده جديداً.. يفكر في مسرح غنائي.. يفتتح استديو للتسجيلات بمعدات حديثة ويسعي في كل هذا إلي التجديد في أسلوبه.. وبدلاً من الغناء الفردي.. اتجه إلي الغناء الجماعي.. ثم بعد ذلك اتجه إلي الدراسة في وقت كان قد حقق خلاله الشهرة والمال.. وهنا يكشف "نوح" عن طموحاته التي لا تنتهي ويحصل علي شهادته من جامعة ستانفورد الأمريكية.. بدراسة حقيقية يمكنك أن تلمسها في تطور أسلوبه والموسيقي وبراعته في التأليف وكتابة النوتة الموسيقية وهي مسألة يعجز عنها الكثير ممن يعملون في حقل التلحين.. لهذا جاءت موسيقاه التصويرية في الأفلام والمسلسلات تتسم بالطابع الأوركسترالي الفخم.
تروح الأيام وتجيء وجلبابه علي حاله بينما فكره الموسيقي يرتقي ويرتفع ويتعمق.. وتراه في محرابه وهو يعزف بمهارة علي البيانو والجيتار والعود وغيرها فتسأل نفسك أين هذا الموسيقار الذي تراه من ممثل بدأ حياته الفنية مثل الغالبية في أدوار متواضعة لا هي كشفت عن قدراته كممثل ولا هي أعلنت لنا عن موسيقي طموح تحت جلبابه.. وإذا رأيته في أفلام: الزوجة الثانية / السيد البلطي / شباب في العاصفة / ستدرك أن بداياته لا تكشف أبداً عن نهاياته.. وكثيرة هي المناقشة التي كانت تدور بيني وبين نوح أمام استديو النهار في مصر الجديدة وأمامنا أكواب الشاي علي الرصيف وحولنا مجموعة كبيرة من صفوة المجتمع يختلفون معه في الكثير من الآراء لكنهم في كل الأحوال يحترمون شخصه الذي يتسم بالعطف والتواضع والحماس.
كان من أوائل من انتمي إلي حزب الوفد ومارس الكتابة لفترات طويلة في بدايات ظهور جريدة الوفد.. ويدهشك أن يكون هذا المطرب الثوري المتحمس صاحب المدد.. من المعارضين لعبدالناصر.. وأنا علي النقيض منه أحبه واعترف له بالأخطاء وقد كان هو أول من اعترف بها.
قعدة الرصيف أمام الاستديو.. علمتنا في فترات مبكرة كيف نختلف في الآراء.. لكن في إطار من الاحترام والمحبة وكلنا في نهاية المطاف نحب مصرنا ونولي وجوهنا شطرها وان اختلفت زوايا التروية وأساليب المحبة.. وفي السنوات الأخيرة انسحب نوح من المشهد الفني وتواري إلي الظل كان رافضا لما يحدث.. ولا يجد لموسيقاه التي درس لأجلها وأنفق أغلب ما جمع.. ليست هي الموسيقي المطلوبة في ظل حالة الانفلات والفوضي والاستسهال والضجيج والدجل باسم الفن.
كان يقولي المناخ يصنع رجاله.. والرجال يصنعون مناخهم.. وأنا وأمثالي لا المناخ مناخنا وكان يسخر من هؤلاء الذين يقدمون هذا الفن الرخيص.. باسم الفن الشعبي.. وهنا كنت أنظر إلي جلبابه وأقول: سبحان الله.. إنه أمامي بتركيبته البسيطة.. لكن داخل الجلباب موسيقي راقية تواكب أحدث ما أجادت به قريحة العالم من حولنا.. عن دراسة وعلم وليس عن فهلوة وهمبكة وسطحية.
الذي مثل وكتب ولحن وألف الموسيقي لعشرات الأفلام والمسلسلات وغني للوطن وألهب الشارع بالوطنية انتهي به المطاف إلي غرفته وحيداً فيرجع أحزانه وأوجاعه علي وطن مكانته عالية ورفيعة ونحن أولاده نتسابق في التدني والمتاجرة به.
كان أكرم له الانسحاب بدلاً من المساهمة في هذا العبث.
ومن يعود إلي الحوارات الصحفية والتليفزيونية التي تحدث فيها سيعرف المزيد من أحلامه الشامخة للبلد وللفن الآن وبعد 30 سنة تقريباً من معرفتي بنوح واقترابي منه.. اكتشف عنده ما لم أكتشفه في حياته.. يزداد إعجابي ودهشتي بهذا المارد المتواضع الذي كان يفصل تماماً بين فنان قد يلمع في ظرف معين ثم يختفي.. وبين فنان لا يتوقف عن البحث والدراسة والانفاق علي فنه واحترام جمهوره.. حتي لو انسحب وتواري إلي الظل مراقبا في حسرة وأسي لما يحدث حولنا ومن هذه الجرائم التي ترتكب باسم الفن وأهله.