عبد الجليل الشرنوبى
مشهد من مسرحية الديمقراطية «الأمريكانية»
يرى من لا يرى إلا ذاته ومشروعه، أن شيئاً فى مصر لم يتغير، رغم خمس سنوات بذلت فيها مصر شعباً وجنداً الغالى والنفيس، للإفلات من قبضة نظام حَكَمَ البلاد والعباد بوجه مباركى يحكم، وآخر إخوانى يعارض، وحين سقط الوجه الأول بإرادة ثورية وطنية، سرعان ما قدم النظام العالمى الذى تقوده الولايات المتحدة، الوجه الآخر الإخوانى ليحكم. وحين سقط الثانى بإرادة ثورية وطنية جامعة، قرر النظام العالمى الأمريكى أن يشطب خمس سنوات من النضال المصري، وأن يمسح من ذاكرة الإنسانية دماءً زكية سالت فداءً لحلم وطن فى أن يتحرر، وذوداً عن الأرض والعرض، حيث اختلط دم المواطن الذى ثار إخلاصاً، مع دم الجندى الذى رابط دفاعاً، ليروى دم مصرى حلم وطننا القادم. يفرض من لا يرى إلا أجندته وعلاقاته، مشهداً مسرحياً كتبته يد أمريكانية ركيكة، وعلى الإنسان فى كل أرجاء المعمورة أن يشاهد وأن يتحمس ثم يصدق ومن بعدها يقبل بنتائج العرض، وإن خالفها فهو عدو للديمقراطية والإنسانية والحقوق والحريات، هكذا شخصياً تابعتُ المسرحية التى بدأت فصولها مطلع فبراير 2016م، حيث انطلق المشهد الأول من صفحات الصحيفة الأمريكية العريقة (واشنطن بوست)، وكان بطلا المشهد (عمرو حمزاوي) و(ميشيل ماكفول)، وعرفت الصحيفة كليهما بكاتب (مصرى أمريكي)، وللدقة فهذا تعريف مجتزأ لا يدعم سير أحداث المشهد، فمن الضرورى مثلاً أن نعرف (مكفول) بأنه سفير أمريكا السابق فى بلاد الغريم التاريخى الأكبر «روسيا»، وهو كذلك المساعد السابق لأوباما بمجلس الأمن القومي، إضافة لكونه مدير معهد (سبوجيل فريمان) للدراسات الدولية بجامعة ستانفورد واحدة من أعرق الجامعات الداعمة لصناعة القرار الأمريكي. أما «حمزاوي» فهو الأكاديمى المصرى الذى يرتبط منذ وقت مبكر بدوائر البحث الأمريكية، والذى هو أيضاً باحث زائر بمركز الديمقراطية والتنمية وسيادة القانون بنفس الجامعة الأمريكية «ستانفورد» التى يعمل بها «ماكفول»، إضافة إلى كونه إحدى حلقات التواصل (البحثي)، بين الأمريكان وتحديداً مركز «كارنيجي»، والتنظيم الإخوانى وتحديداً «خيرت الشاطر» خلال منتصف العقد الأخير من حكم مبارك.
فى مشهد المسرحية الأول طرح (حمزاوي/ماكفول) فى صورة مقال مشترك، تساؤلاً هو (كيف يمكن إنقاذ مصر؟)، ولإجابتهما عليه قررا فرض التصور الأمريكية على مشهد (ما بعد الربيع العربي)، باعتباره واقعاً يؤكد أنه (بعد مرور خمس سنوات على الربيع العربي، تبدو الديمقراطية حلماً بعيداً فى الشرق الأوسط - الجدال يذهب إلى أن إعادة الاستقرار، أهم من الديمقراطية - لتغيير السياسى تدريجياً، هو الطريق الوحيد لمنع العنف، وإحداث تغيير جذرى فى المستقبل - ما عدا تونس الربيع العربى لم ينتج أشكالاً من النظام التى كنا نتمناها فى 2011). وهكذا مهد الكاتبان الطريق لفرض رؤية أمريكية للواقع المصرى بدأت بجزم أن (مصر معروفة بأنها المكان الذى تم فيه إعادة إحياء الاستبداد بنجاح). ثم ومرت بتأكيد حاسم أن النظام المصرى الحالى استبدادى فرض (قوانين تخص المظاهرات والإرهاب. والمصريون تلقوا وابلاً من الرسائل عن ضرورة إعطاء الأولوية للاستقرار على حقوق الإنسان). وأخيراً انتهت لنفس رأى التنظيم الإخوانى فى المشهد المصرى الحالي. وعلى كل من يحيا هذا المشهد من المسرحية الأمريكانية، أن يعتبر نفسه الممثل محمد سعد فى فيلمه الأفضل (اللى بالى بالك)، ويتقمص شخصية (اللمبي) ليقول (سيسقط النظام ... تصدق خفت وركبى بتخبط ع الجيران). فلقد قررت بلاد العم السام أن ترمى لنا بفلذات عقولها البحثية فى جامعة (ستانفورد) ليبشروا المصريين بقرب سقوط دولتهم لأنها خالفت التصور الأمريكانى وخرج شعبها عن سيناريو كتبته سيدة العالم لنهضة الأمم، ويحيا فى رغد هذا التصور شعوب (السودان - أفغانستان العراق ليبيا سوريا اليمن)! وبالتالى فإنه حسب رأى (حمزاوي/ماكفول) فإنه ( يجب على النظام المصرى وحلفائه الخارجيين أن يبحثوا عن استراتيجية جديدة لتوليد شرعية النظام)، وراع هنا عزيزى القارئ أن الصياغة الأمريكانى استخدمت قاطعة (يجب) وأعادتها مرة أخرى قائلة (يجب على النظام المصرى أن يطلق سراح عشرات آلاف السجناء السياسيين- عليه إلغاء القوانين القمعية الأمنية التى وضعت فى عام 2013 - وضع هيكل للعدالة الانتقالية - إنشاء لجنة حقيقة للمصالحة- إصلاح الأجهزة الأمنية). وبالتأكيد (يجب) على الإدارة المصرية التنبه لتاريخ صدور هذا البيان المقال، فلقد رأى العقل الأمريكانى أنه (يجب) طرحه بعد أيام من فشل التنظيم الإخوانى فى (إسقاط الدولة) مع إحياء ذكرى ثورة 25يناير، حيث كان السيناريو سيكون أكثر اختلافاً، لكن وعى الشعب الصابر وجعاً منذ سنوات، مع يقظة أجهزة الدولة على سلبيات بعض أداءاتها- أفشلت الخطة، وكان على العم سام أن يخرج سريعاً من جرابه سيناريو بديلا ينتهى بالتحذير مما فشلت خطة التنظيم فى تحقيقه هو إسقاط الدولة، فيقول (حمزاوي/ماكفول) عن المصير حالة عدم تنفيذ الطرح الأمريكانى (البديل يتضمن مزيداً من العنف، ومزيداً من التطرف، وفى النهاية انهيار الدولة).
ربما يرى البعض فى هكذا رؤية نوعاً من أنواع التبنى لـ (نظرية المؤامرة)، وإننى أعترف تماماً بأننى أكتب انطلاقاً من إيمان بمؤامرة أمريكانية صرفة تستهدف إعادة رسم خريطة المنطقة، وإيماناً بأن (أمريكا) التى أسقطت دولاً وشتتت شعوباً بعد أحداث 11 سبتمبر، وأنشأت وأدارت (أبو غريب جوانتنامو)، ورعت وترعى عشرات المؤسسات التنظيمية الإخوانية على أرضها، وتنظيم لأعضائه جلسات استماع واستقبال داخل مؤسساتها الرسمية، إن هكذا تصور لسيدة العالم يحرك ما أكتبه، ولكن الواقع أيضاً سريعاً من يسوق من دلالات التأكيد الكثير، وهنا يبدأ المشهد الثانى من (مسرحية الديمقراطية الأمريكية)، والذى تنطلق أحداثه بعد 48ساعة من مشهد (حمزاوى/ماكفول)، حيث تظلم الخشبة ليدخل نائب مرشد الإخوان إبراهيم منير. وللحديث بقية