قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية وبعد وصول شعبية الزعيم النازى أدولف هتلر إلى ذروتها الهائلة لا أظن أن مواطنا ألمانيا منح ابنه اسم "هتلر" فى دفاتر المواليد الجدد. الألمان شعب منضبط، ولم يكن ليسمح أحدهم بذلك حتى لا تدفعه أمور الحياة اليومية إلى ترديد عبارات مثل: هتلر الزفت بال على نفسه فى الفراش، أو هتلر الملعون كسر نافذة الجيران، والأهم أن يتورط ويسبه أمام الغرباء فيذهب وراء الشمس.
نحن بصراحة أمهر منهم. نطلق على المواليد أسماء رؤسائنا لنحصل على المكاسب المتوقعة ثم نمنحهم أسماء للدلع نسبّهم بها فى الطريق حتى نتجنب الشبهات. هناك أسماء أخرى بريئة يمنحها الفقراء لأبنائهم إعجابا بأقوال الزعماء أو أفعالهم.
لدينا رجال ونساء يحملون أسماء عجيبة مثل سام ستة وتوشكى واستنزاف، ولا أستبعد أن يكون العشم قد دفع بفقراء ألمان إلى إطلاق اسم نوتفيند شكايت بمعنى "ضرورة" على مواليد إناث بعد خُطب هتلر النارية فى "الرايخ ستاج" التى طالب فيها النواب، والمواطنين بالتنازل عن المبادئ الإنسانية والقانونية، وتنحيتها جانبا كضرورة لمرحلة حرجة تعيشها بلادهم. الشعوب الأقل حظوظا والأسوأ ظروفا تمر بنفس التجارب المأساوية التى خاضتها شعوب غيرها، وهى تظن أنها ستحصل على نتائج مختلفة.
لا تصدق تماما صورة هتلر الكاريكاتورية، التى أسهمت فى ترويجها رداءة صناعة تحريك الشرائط السينمائية، وأشبعتها أفلام هوليوود بعد نهاية الحرب العالمية تريقة، وهو يخطب بحركات هستيرية فى مواطنيه ليستثير نخوتهم ليقبلوا الإجراءات الاستثنائية التى تمليها عليهم ضرورة المرحلة. الشعب الألمانى لم يخدعه بهلوان. هتلر كان ديكتاتورا يتمتع بكاريزما أتاحت له تكميم الأفواه، وضبط الإعلام على نغمة واحدة، وتسييس القضاء، وترسيخ قبول حق الشرطة فى الاعتقال بلا سقف زمنى ودون مسوغات قانونية، وتكوين كتيبة العاصفة التى تضم شبابا متحمسا يؤمن بالنازية ويملك حق الضبطية القضائية ليستخدمها لاعتقال المعارضين الذين يتم تصنيفهم بلا استثناء فى خانة "أعداء الشعب" بزعم ارتكابهم تجاوزات أخلاقية ووطنية تبيح محاكمتهم وقتلهم فى الطرقات. يتم هذا تحت لافتة الفضيلة لتخدير العوام، وتهيئة المجتمع للعيش تحت رعب الاعتقال المباغت. العقل الاستبدادى لا يقبل فكرة أن الرأى الآخر يضبط إيقاع ممارساته، ويحميه من الشطط، وأن غياب العدل فى الخصومة يخلق رغبة فى الثأر تقوى معسكر أعدائه وتضيف إلى طوابيره أعدادا جديدة من المظلومين الانتحاريين. الاستبداد يعشق تعبير ضرورة المرحلة. يطالبك المستبدون دائما بأن تصمت عن كل ما تراه من أخطاء زاعقة، لأن ضرورة المرحلة تقتضى أن تبتلع لسانك.
لماذا لا تصبح الديمقراطية وصناعة دولة المؤسسات ضرورة لأى مرحلة نمر بها على سبيل التغيير؟ قبولك التجاوزات تحت شعار الوصول بسلام إلى بر الأمان يحولها بمرور الوقت إلى أمر واقع لا يمكن تغييره إلا بتضحيات فادحة. لأنها تصير حقا مكتسبا لمن يقومون بها، ويستفيدون منها. شعار "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة" يجب أن تضاف إليه عبارة "سوى صوت العقل".
اسمح لأجهزة الأمن باعتقال الناس بالشبهات وتعذيبهم، لأن الوطن يمر بمرحلة صعبة وسيجعله هذا يخوض مراحل أكثر صعوبة. التفريط فى الحقوق يمثل كارثة تشبه الانشطار الذرى غير المحسوب. ذرة واحدة تنشطر لتخرج منها طاقة تشطر ذرات أخرى، تخرج منهم طاقة تشطر أضعافهم ليستمر الأمر هكذا بطريقة تخرج عن السيطرة. أعد قراءة ما سبق، وضع نصب عينيك ما حدث لشعوب أخرى أقوى وأنضج مرت بنفس التجربة، وإن كنت نازيًّا أفكرك.
مقال قديم أعيدت كتابته بصياغة جديدة لضرورة المرحلة.