ابتعدت عن الإسكندرية ثلاثة أعوام أو أقل.. طالعتني ـ في زيارة أخيرة لها ـ بما لم يخطر في بالي ولا تصورته.. بدت مغايرة لما اعتدته طيلة سني نشأتي في مدينتي الساحلية أبادر فانفي ان تكون المغايرة لصالح التطوير في المدينة بما يعيدها عروس المتوسط العكس هو ما يفاجئك البنايات المكتنزة المساحة. المرتفعة الطوابق. يتجاوز معظمها 20 طابقا علي جانبي الشوارع الضيقة في مناطق الرمل. كأنك في مدن خرافية بعماراتها التي تبتلع الشوارع. وما يتحرك فيها.
لم يحدث ذلك التغير المعماري بين يوم وليلة. كما لم يحدث في سنوات. بدأ العبث وتكرار الجريمة في أعقاب ثورة يناير وجد الباحثون عن المكسب السريع في الفوضي التي شملت الإسكندرية عقب الثورة ما يحفزهم إلي هدم الفيلات. وبناء العمارات الهائلة بدلا منها. أو إضافة طوابق جديدة. كثيرة. إلي البيوت القديمة!
لا ينشغل الجشع بمدي قدرة اساسات البناية القديمة علي تحمل الطوابق الجديدة. ولا بالمادة التي يجب ان تباعد بين تعلية الطوابق. بحيث لا تتعرض البناية بعد اتمام بنائها. او حتي أثناء عملية البناء. للانهيار!
المشكلة تفضي إلي العديد من المشكلات: البنايات الشاهقة في الشوارع الضيقة تجعل محاولة تدخل الدفاع المدني بالغة الصعوبة. او مستحيلة.
كيف تصل عربة المطافئ إلي شقة في الطابق العشرين وما بعده. لتطفئ حريقا. او لتنقذ السكان. إذا افلح رجال الدفاع المدني في الصعود إلي موضع الحادثة. فإن مشكلة عدم وصول المياه إلي ذلك المستوي تفرض العجز عن استكمال الإنقاذ. وإذا انهارت الطوابق العليا. فإنها تسد الطريق. وفي انقاضها بشر قد يموتون داخلها. وربما اخذت أمامها. أو إلي جوارها. بنايات اخري تتسع المشكلة التي قد تبدأ صغيرة لتشكل مأساة. تشير بالاتهام إلي الإدارة المحلية. بداية من المحافظ إلي اللحلوح الذي يشتري ذمم كبار الموظفين وصغارهم. مرورا بالمهندس الذي وقع علي تخطيط البناية. والمقاول الذي اقدم علي البناء بالفهلوة. وصاحب البيت الذي لا يعنيه إلا سرعة البناء. وتقاضي المقابل الباهظ ثمنا للموت! بل إن الإدانة تتجه إلي من يقبلون ـ تحت أي ظرف ـ شراء شقق تلك البنايات. وهم يدركون انها اشبه بالبراكين التي قد تقذف بحممها في أي لحظة. الفارق ان البركان يعطي نذرة قبل ان تنهمر النيران من فوهته أما البناية المنهارة. فإن انهيارها لا تسبقه نذر. إنما يحدث كل شيء فجأة. فيموت الآحاد او العشرات. ضحايا البنايات التي صارت شعارا للفساد. بما يدعو إلي المحاسبة القاسية لكل من شارك في صنع الجريمة.