امال عثمان
فوق الأرض أعزاء.. تحت التراب شهداء! (3)
جاء مودعاً أسرته وكأنه يشعر باقتراب أجله، كانت آخر أمنياته رؤية وليده البكر «سيف» الذى هبط إلى الحياة بعملية قيصرية قبل موعده بأسبوعين، تنفيذاً لرغبة والده الذى أراد حضور ولادته والاحتفال بسبوعه قبل أن يغادر إلى الفرافرة، وحين طلبت منه والدته ترك زوجته تلد فى موعدها، ويرى مولوده فى إجازته المقبلة قال لها: أنا رايح ومش راجع يا أمى!!
ويروى النقيب حسام شرف الدين فى مذكراته، كيف احتفل الشهيد «محمد» زميل الدفعة 103 بسبوع ابنه «سيف» بعد خمسة أيام فقط من مولده، قضى منها يومين داخل الحضانة، فى حين لم يسمح له وقته بتناول إفطار أول أيام الشهر الكريم مع عائلته، ورحل إلى موقعه فى الصحراء الغربية حاملاً على كاهله أحزان حادث إرهابى تعرضت له سريته قبل شهرين، استشهد فيه ضابط وخمسة جنود، ولم يهدأ سوى بعد أول معركة مباشرة مع قوى الإرهاب الغادر فى العشر الأواخر من الشهر الكريم، استبسل فيها مع جنوده لحماية نقطة حرس الحدود بالفرارة، وخلال 45 دقيقة لقى العديد من الإرهابيين مصرعهم، مما دفع زملاءهم الآخرين لتفجير مخزن الذخيرة بقذائف الـ«آر بى جى»، وهو ما أودى بحياة الشهيد «محمد»، ومعه 21 جندياً وأصيب أربعة آخرون!
عندما علم النقيب «أحمد عبدالسلام» باستشهاد صديقه وزميل دفعته كتب يقول: «نحن قوم حسمنا أمرنا إما فوق الأرض أعزاء، أو تحت التراب شهداء»، وبعد أقل من شهرين لحق بزملائه فى جنات الخلد شهيداً، وهكذا رحل اثنان من أربعة أصدقاء جمعتهم ذكريات وضحكات وحكايات جميلة، وأثناء عودتهم من إجازتهم كان الجو يومها شديد البرودة، ذهب الأصدقاء الأربعة إلى ميناء العريش كى يستقلوا «اللنش» ويعبروا إلى مواقعهم، وبعد أن علموا أن موعده فى صباح اليوم التالى، ذهبوا إلى مكان ليقضوا فيه ساعات الليل، ولم يجدوا سوى أريكة يتمددون فوقها، وحين داعب النوم جفونهم أخرج النقيب طارق المالح «البطانية» التى كانت معه، وتشارك الزملاء الأربعة الدفء وهم مكدسون على الأريكة، يتبادلون الضحكات ويلتقطون لأنفسهم الصور «السيلفى»، نسوا الجوع والبرد والتعب وقضوا لحظات ممتعة يملأها المرح والود والسعادة.
تذكر النقيب «طارق» هذا اليوم وهو يشاهد الصور والدموع تغطى وجهه، وأقسم أن يأخذ حقهم وقال: وحشتونى يا أجدع وأرجل وأغلى الأصحاب، ربنا يجمعنا فى الآخرة كما جمعنا فى الدنيا.
من مفارقات القدر أن يستشهد «ابن السويس» المدينة الباسلة، وبلد الأبطال والصمود على يد شخص عربى! وأن تسمى العملية الإرهابية التى أودت بحياته، وحياة 29 شهيداً من زهرة شباب القوات المسلحة بالغزوة المباركة!! وأن يصبح هؤلاء الشهداء، مجرد صورة فى خبر أو اسم يتصدر واجهة مدرسة أو شارع أو ميدان! وينسى الكثيرون أن أولئك الذين ضحوا بأحلامهم وآمالهم وحياتهم، وبذلوا أرواحهم، تاركين خلفهم أمهات ثكلى وأبناء يتامى وزوجات أرامل!!
«أبو البنات» هو الاسم الذى كان أصدقاء الدفعة 103 يطلقونه على الشهيد محمد عادل حفيد «السوايسة»، والمعروف بشجاعته ووطنيته، والذى كان فخوراً بالسويس وقصص بطولات أهلها، حكى لزملائه عن بطولات شيخ المجاهدين حافظ سلامة منذ مقاومته للإنجليز ثم حرب الاستنزاف، وقيادته لصمود مدينة السويس طوال 100 يوم، وقت ثغرة الدفرسوار عام 1973، عجز خلالها الجيش الإسرائيلى عن اقتحامها. وروى قصة البطل الشهيد أحمد أبوهاشم قائد كمين مزلقان «البراجيلى» ومثله الأعلى، الذى صوَّب مدفعه ليصيب دبابة فى مؤخرة طابور الدبابات الإسرائيلى المتجه لاحتلال السويس، بينما اختبأ أبطال المقاومة على جانبى شريط السكة الحديد وفوق أسطح المنازل، وحين تقدمت الدبابات إلى قسم الأربعين، قاموا بتدمير دبابة القيادة، لتعجز الدبابات عن التقدم والتقهقر، ويتقدم أبطال المقاومة ويدمرون 67 دبابة ومدرعة خلال 3 ساعات، ويحتجزون الضباط والجنود أسرى!
استشهد النقيب «عادل» فى هجوم غادر من جماعة ولاية سيناء -أنصار بيت المقدس سابقاً- استهدف الكتيبة 101 بالعريش، بعد اقتحام سيارة صهريج مفخخة بوابة الكتيبة، فجرها سائقها بالقرب من استراحة الضباط والجنود، ورغم أن النقيب عادل نجا من الانفجار، إلا أنه استشهد فى تبادل إطلاق النار مع الإرهابيين خلف أسوار الكتيبة!
حارب الجيش المصرى الصهاينة نيابة عن المصريين والفلسطينيين أيام معركة السويس، أما الآن فالأعداء المتربصون بالجيش مصريون وفلسطينيون، أما الصهاينة فتفرغوا لتنمية بلدهم والارتقاء به!!