محمد ابو الفضل
قبل أن تصبح إسرائيل ضيفا دائما
قد تكون الأزمات والحروب الدائرة فى المنطقة أنست البعض، ثوابت إستراتيجية يقوم عليها الأمن القومى المصري،
وقد يكون تزايد المشكلات وتراكم التحديات الداخلية، أبعد آخرين عن قضايا ذات أولويات مصيرية، لكن من المؤكد أن الشواغل والهموم المتعددة، لن تغير رؤية كثيرين حيال طبيعة الصراع مع إسرائيل، لأنها لن تتحول بين يوم وليلة إلى حمامة سلام واستقرار فى المنطقة.
المكاسب التى حققتها إسرائيل خلال السنوات الماضية ليست هينة، ربما تفوق فى أهميتها مجمل ما حققته منذ إعلان قيامها منذ نحو 68 عاما، لذلك تعد أبرز الرابحين من وراء الخراب الذى ضرب أجزاء كثيرة فى المنطقة، وتتمنى استمراره لمزيد من الوقت لحصد أرباح جديدة، فقد تحولت من عدو إلى صديق لدى بعض الدول، وحليف عند آخرين، وعلى استحياء يأتى الكلام عما تقوم به من تسلط وانتهاكات .
إذا كان للسياسة منطق وأحكام عميقة، وللأمن مقاييس ومعايير حاسمة، فإن لهذين المحددين (السياسة والأمن) أيضا ضوابط صارمة عند النخبة الثقافية، والتى تعتبر ترمومترا أو بوصلة لحركة الشعوب، ومهما تغيرت التقديرات والحسابات، فإن الوجدان الشعبى يظل يتحكم فى كثير من المعطيات، التى يمكن أن تكبح جماح صاحب القرار، وتمنعه من الاقدام على خطوات، ربما يظن أنها مفيدة، أو مضطرا للإقدام عليها درءا لبعض الأزمات، كما أن الرافد الشعبى الغزير والمؤيد يمثل غطاء مهما للحاكم، ويمنحه جرأة للمضى قدما نحو هدفه الوطني، خاصة فى اللحظات الفارقة، أو القرارات التى تخالف المزاج المعتاد.
وفى حالة رفض الشعب أو عدم ارتياحه للقرارات الفارقة، تفرمل العناصر الحية من المواطنين الاتجاه نحو تقديم مزيد من التنازلات، التى قد يكون الحاكم مجبرا عليها، باعتبارها مدخلا لتخفيف ضغوط، أو وسيلة لتوفير مكاسب فى نواح أخرى غير معلومة للعامة.
هذه المعادلة المعقدة يمكن تطبيقها على الموقف من السلام مع إسرائيل، الذى أصبح شعارا لعدد كبير من الدول، فقد وقعت مصر معها اتفاقا للتسوية السياسية، قبله البعض ولفظه كثيرون فى حينه، وفى ظل تطورات حرجة، غالبيتها مال ناحية سقوط قناعات وأفكار مناهضة، تغيرت جملة كبيرة من التوازنات، جعلت الآية تصبح معكوسة تماما، بمعنى أن كثيرين أيدوه، وبقيت قلة قابضة على الجمر.
لن أدخل فى جدل، من بقى ومن خرج ولماذا ومتى وكيف؟ ومن أيد أو قاوم، وما هى دوافعه ؟ ولماذا تغير من تغير وما هى أسبابه ؟ وأترك هذه الأسئلة للفطنة، لأن معظم القراء يعلمون إجابتها مسبقا.
فقط أريد أن ألقى الضوء على أهمية استمرار النخبة فى عدم التفريط فى ممانعتها التطبيع، والتى قد يعتبرها البعض تحلق فى الخيال، وإذا افترضنا أنها كذلك، فهو خيال صحى ووطنى ومفيد للدولة المصرية وصناع القرار فيها، لأن هذه الورقة يمكن توظيفها سياسيا، ومن خلالها تتحقق مجموعة من المكاسب، وزادت أهميتها فى الآونة الأخيرة، بعد أن اختلطت بعض الأوراق، ولجأت دوائر إسرائيلية إلى الامعان فى تكثيف ضغوطها، الأمنية والسياسية الإعلامية والثقافية، ومحاولة تصوير الموقف على أنها صاحبة اليد الطولي، التى تملى أوامرها على كثير من الدول العربية.
ليعذرنى البعض فى كلامى الصريح، لأن ما يجرى يبدو مقدمة لعملية تغيير واسعة، فى التوجهات والتصورات والسياسات، يتم التمهيد لها بعناية، مع توظيف دقيق لجميع الإمكانات المتوافرة، منها كلام صدر عن يوفال شطاينتس وزير البنى التحتية الإسرائيلى يوم السبت الماضي، مفاده أن «مصر تعمل على هدم الأنفاق، بناء على طلب تل أبيب».
ومع إن الرجل تراجع عن تصريحه الخبيث، غير أن العبارة أحدثت صداها، وجرى استغلالها، لتشويه الدور الوطنى الذى يقوم به الجيش المصري، سواء لجهة حماية وضبط الحدود، أو مكافحة فلول الإرهابيين القادمين من غزة.
الأخطر أن هذا التصرف تزامن مع نبرة بدأت تنتشر، تزعم أن حل جزء من أزماتنا الأمنية فى سيناء، لن يتم دون المزيد من التفاهمات مع إسرائيل، وتقديم عناصر متباينة من الإغراءات المادية والمعنوية لها، لاسيما تلك التى تتعلق بالثوابت، أى التطبيع وخلافه.
زد على ذلك أنه يتم الآن تصوير الأمور فى أزمة سد النهضة على أنها فى يد إسرائيل ولن تحل عقدتها إلا عبر إحياء مشروعها السابق المتعلق برغبتها فى توصيل مياه النيل إليها.
طبعا لا أحد ينكر الدور المريب الذى تلعبه منذ فترة طويلة حكومات إسرائيل المتعاقبة فى منطقة حوض النيل، لكن الرضوخ لمطامعها لن يفيد، ومن الصعوبة أن يتوقف عند حدود معينة، بل سوف يجعلها تواصل ضغوطها للحصول على المزيد من الثمار، وتوسيع رقعة الاختراق للمحرمات الوطنية.
لذلك يعد موقف عشرات المثقفين الذين رفضوا عرض كتاب جاكى حوجى «ألف ليلة وليلة دوت كوم- العالم العربى اليوم، ثقافة ودين وسياسة» فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، موقفا وطنيا بامتياز، وينم على أن مسيرة المقاطعة مستمرة، حتى لو تساقط منها كثيرون فى الطريق، بحجة أن الأوضاع تغيرت وإسرائيل أمر واقع، أو بذريعة أن العالم أصبح مفتوحا، والمنع بات موضة مرفوضة، وما إلى ذلك من مبررات تنم عن قصور فى الوعى السياسى والإدراك الثقافي، فإذا كانت المسألة بسيطة على هذا النحو، لماذا تجهد إسرائيل نفسها وتحاول حشر إنتاجها الفكرى رسميا فى مصر وغيرها من الدول العربية ؟
مؤكد لا أدعو إلى راديكالية (يسارية) جديدة، أو مزايدات أو تبنى خطاب «حنجوري»، لكن أى قراءة سريعة للتطورات الراهنة، تفرض على النخبة الحقيقية أن تكون داعمة للدولة المصرية، وتتمسك أكثر من ذى قبل بالممانعات التقليدية، وتضخ الدماء فى التيار المقاوم للتطبيع، لأن مردوداته السياسية مهمة لصانع القرار، الذى يعض بالنواجذ على الثوابت التاريخية، ويصد الضغوط، حتى لا تكون إسرائيل ضيفا دائما علينا، يطمع فى السيطرة على الدار.