الأهرام
طه عبد العليم
الرأسمالية الصناعية بعد الثورة المصرية
وصلتنى وثيقة مهمة أعدها الاتحاد المصرى لجمعيات المستثمرين تحت عنوان برنامج لاصلاح وتنمية الاقتصاد المصرى. وتستحق الوثيقة قراءة موضوعية نقدية للمنطوق به والمسكوت عنه فى خطاب الرأسمالية الصناعية المصرية بعد الثورة المصرية. وأنطلق فى قراءتى مما تضمنه الخطاب المرفق، من الصناعى الكبير الأستاذ محمد فريد خميس رئيس مجلس إدارة الاتحاد، وهو تحية ما كتبته فى مقالى بالأهرام 3 يناير 2016 تحت عنوان نحو إستراتيجية لتصنيع مصر، وتقدير مساهمتى فى تنوير الرأى العام بقضايا الوطن، فى مرحلة تتطلب منا جميعا إعلاء مصلحته العليا؛ كما تؤكد الرسالة.

وأسجل أولا، ما كتبته فى مقالات سابقة أقول: إن مصر لن تشهد استقرارا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا بغير إقامة نظام اقتصادى اجتماعى جديد، دعوت إليه وقدمت تصورى له، قبل وبعد ثورتى 25 يناير و30 يونيو، وللأسف فان دستور 2014، رغم ما تضمنه من حماية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لم يحدد طبيعة النظام الاقتصادى الاجتماعى، بغاياته وركائزه ووسائله، ويكشف التعلم الايجابى من الخبرة التاريخية المصرية، وخبرة سقوط النظم الأصولية سواء الاشتراكية أو الرأسمالية، أن معيارى مشروعية أى نظام اقتصادى اجتماعى هما: التخصيص الرشيد للموارد وعدالة توزيع الدخل لتلبية الحاجات الأساسية والتطلعات المشروعة للأمة المصرية، ويقتضى تحقيق هاتين الغايتين أن يرتكز النظام الى تكامل أمثل بين: ادوار الدولة والسوق، وقطاعى الأعمال العام والخاص، والتخطيط الوطنى والمبادرة الفردية، والانفتاح الخارجى والسيادة الوطنية.

وتتمثل أهم وسائل تحقيق هذه الغايات وتطوير هذه المرتكزات- كما تكشف خبرة التقدم الشامل فى العالم- فى: تعظيم الإنتاجية والتنافسية وخاصة عبر التنمية الإنسانية وفى قلبها الارتقاء بجودة التعليم، وبناء أسس الاندماج المتكافىء فى الاقتصاد العالمى عبر التنمية المستدامة المعتمدة على القدرات الوطنية بالأساس، وردع الفساد خاصة المنظم مع كبح الجشع المنفلت ونبذ خطاب الشعوذة الاقتصادية. وهنا تبرز الرافعة الأهم للتقدم الشامل وهى تصنيع مصر، الذى لا يزال فريضة غائبة عن الحكومة والمعارضة، ببساطة لأن مصر لن تعزز أمنها القومى ببناء القوة الشاملة للدولة، ولأن المصريين لن يتمتعوا بأمنهم الإنسانى؛ فيتحرروا من الفاقة والحاجة والخوف، بغير التصنيع وما يتيحه من وظائف غير محدودة ومرتفعة الإنتاجية والدخل.

وثانيا، أن رؤيتى للنظام الاقتصادى الاجتماعى المنشود تتضمن دورا حاسم الأهمية للرأسمالية الصناعية المصرية، شريطة أن تنهض بمسئولياتها المجتمعية والتنموية والوطنية وخاصة باحترام الدستور والقانون، وأن تتحرر من قيود تضارب مصالحها المتعارضة وخاصة بعدم الجمع بين نشاطى الاستثمار الصناعى والمضاربة العقارية. وأقول باستقامة إن النظام المنشود يمثل أساس بناء دولة المواطنة، دولة كل مواطنيها، ومنهم الرأسماليون المصريون بكل شرائحهم الكبيرة والمتوسطة، التى تحترم كل حقوق المواطنة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمدنية والثقافية، دون تهميش أو تمييز. وأنطلق فى دعوتى لبناء دولة المواطنة من استيعابى لحقيقة أن ثورة 25 يناير ضد الفساد المنظم والجشع المنفلت والقمع المنهجى، وثورة 30 يونيو ضد الفاشية التكفيرية والإرهابية المعادية للوطن والمتاجرة بالدين، حلقتان متكاملتان تجسدان معا ثورة ديمقراطية وطنية، وتعبران عن ممارسة الأمة لحقها فى اختيار وإعادة اختيار الحاكم والنظام. وهى ثورة تتسع للأمة المصرية بجميع طبقاتها وقواها الوطنية الديمقراطية، وباستثناء إقصاء الفاشية التكفيرية وتصفية قوى الإرهاب، تبقى الديمقراطية فى عملية بنائها الممتدة سبيل تسوية التناقضات بين الرأسماليين والعاملين وبين الحكام والمحكومين؛ وغيرها من التناقضات.

وهنا أؤكد ما سجلته قبل الثورة (فى أصول المسئولية المجتمعية لرجال الأعمال، الأهرام 3 مايو 2009) أنه لا خلاف على أن رجل الأعمال يسعى, وينبغى أن يسعى, الى تحقيق أقصى ربح ممكن, لأن هذا ما يميز مشروع الأعمال عن العمل الخيرى, ولأن تعظيم الربح يوفر حافز رجل الأعمال, المبادر والمنظم والمخاطر والمبتكر, ليكون فاعلا لا غنى عنه فى تحقيق التنمية والتصنيع والتقدم. لكن هدف الربح, وهو منطقى وتاريخي ومشروع, لا يتعارض مع التزام رجل الأعمال بواجبات المسئولية المجتمعية، التى تعنى تحقيق ربحية المجتمع جنبا الى جنب مع الربح الفردى.

وثالثا، وفى عود على بدء إلى وثيقة الاتحاد المصرى لجمعيات المستثمرين، أسجل مطلبها بمواجهة عجز الموازنة العامة للدولة بفرض ضريبة القيمة المضافة بما لا يمس ذوى الدخول المحدودة وقدر رئيس مصلحة الضرائب حصيلتها بنحو 30 مليار جنيه، وتحصيل المتأخرات الضريبية التى قدرها نفس المسئول بنحو 76 مليار جنيه. ومع دعوة الوثيقة إلى ترشيد إنفاق الحكومة بامتناعها عن شراء أي شىء لمدة ثلاث سنوات أسوة بما اتبعته أمريكا ودول أوروبية، تطالب بفرض رسم تنمية فوق سقف الضريبة المعلن يتراوح بين 3% ـ 7% حسب فئات الدخول التى تزيد على خمسة ملايين جنيه سنويا.

ومواجهة عجز ميزان المدفوعات الناجم عن زيادة المدفوعات عن الواردات السلعية، الرسمية والمهربة، بسبب انخفاض الانتاج المحلى وزيادة تكلفته عن تكلفة الانتاج فى البلدان المنافسة وذلك لتدهور الصناعة المصرية، وعدم تشديد ورفع المواصفات القياسية للحد من الواردات. وهنا تطالب الوثيقة بمحاربة التهريب الجمركى الذى وصل الى مائة مليار جنيه منها 60 مليار جنيه مصنوعات نسجية وملابس طبقا لتصريح رئيس غرفة الصناعات النسجية باتحاد الصناعات المصرية فى نوفمبر 2014، مما أدى الى إغلاق آلاف المصانع، ثم تنتقد الوثيقة عدم تطبيق ما تسمح به أحكام منظمة التجارة العالمية من فرض لرسوم الاغراق والحماية وزيادة الرسوم الجمركية فى حالة تعرض الصناعة لمنافسة غير متكافئة وللحد من الواردات وحماية ميزان المدفوعات فى حالة تهديد الاحتياطى النقدى. وهنا تبرز أن مصر تستطيع أن تزيد التعريفة المطبقة على السلع الصناعية والتى لم يتعد متوسطها نحو 9% فى عام 2015 بينما تصل التعريفة المربوطة وفق التزاماتها بمنظمة التجارة العالمية إلى نحو 30%.

ثم تنتقل الوثيقة لعرض رؤية للسياسة الصناعية المتكاملة، تستحق تناولا لاحقا إن شاء الله.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف