التقيت الأستاذ محمد حسنين هيكل وتحدثت إليه وسمعته وجهًا لوجه غير مرة، وأشهد أنه رجل فذ في مجاله، وأنه أهم صحفي مصري وعربي في القرن العشرين، وإذا كان يكابد الآن مأزق العزوف عن الحياة بعد أن انقضت عليه أمراض الشيخوخة، فإنني أظن أن دراسة تجربته العريضة والثرية ضرورة لمن يريد أن يعرف كيف يدير المرء موهبته، وكيف يسمو الإنسان ويقتنص المجد، فيرتفع إلى ذرى غير مسبوقة.
صحيح أن الأستاذ تعلم فنون العمل الصحفي في مدرسة محمد التابعي (1896/ 1976) رائد الصحافة المصرية الحديثة، إلا أنه تفوق على أستاذه وعلى مجايليه، ويعود ذلك إلى دأبه المدهش وقدرته الخارقة على تنظيم وقته.
مهارات هيكل معروفة، وبراعته في التحليل والاستشهاد مدهشة، وعلاقاته المتنوعة بكبار الشخصيات في القرن العشرين تثير الإعجاب، لذا سأتحدث هنا عن لقاءاتي معه وأبرز ما فيها.
المرة الأولى التي رأيت فيها الأستاذ هيكل كانت في مجمع الفنون بالزمالك -قصر عائشة هانم فهمي- في عام 1996، حيث حضر بكامل أناقته لزيارة معرض الفنان الكبير حلمي التوني. آنذاك كنت أجري حوارًا مع الفنان القدير، وإذا بالأستاذ هيكل يدلف من باب المعرض وبصحبته السيدة زوجته، فيهرع نحوه التوني ويصافحه بحرارة، ويقدمني إليه بشكل لائق.
في الغرف الداخلية من مجمع الفنون كان هناك معرض آخر للفنان يحيي أبو حمدة، فتجول فيه الأستاذ هيكل، ثم اقتنى منه لوحة تمثل الكعبة يطوف حولها الآلاف من المؤمنين، فلما وصل إلى المعرض الكاتب الكبير فهمي هويدي أقبل بتؤدة على الأستاذ هيكل وقبله في كتفه، لكن هيكل عاجله وقال مداعبًا: (تعالى يا فهمي... شوف أنا اشتريت أي لوحة) في إشارة إلى لوحة الكعبة.
أما المرة الثانية والأهم فكانت في 22 مايو من عام 2000، إذ أدار الأستاذ هيكل الحفل الذي أقامته جمعية أصدقاء أحمد بهاء الدين بمناسبة الإعلان عن اسم الفائزة بالجائزة الأولى في دورتها الأولى، وذلك في مكتبة القاهرة الكبرى بالزمالك، حيث حضر الاحتفال كوكبة معتبرة من خيرة مثقفي مصر ومبدعيها. ومن حسن حظي أنني كنت هذا الفائز عن كتابي (تاريخ الرسم الصحفي في مصر)، ودعاني الأستاذ هيكل لتقديم كلمة موجزة عن محتوى الكتاب.
تخيل نفسك تتحدث في مسابقة باسم أحمد بهاء الدين وهو مَن هو، ويقدمك الأستاذ هيكل نفسه. وهكذا ارتجلت كلمة لمدة ربع ساعة تقريبًا عن بداية الرسم الصحفي في الصحافة المصرية وتطوره وأهم نجومه خلال قرنين من الزمان تقريبًا، ورغم اضطرابي فإن الجمهور استقبل كلامي بحفاوة كبيرة، وما إن صافحني الأستاذ هيكل مهنئًا حتى قال لي بالحرف: (برافو عليك يا ناصر... لكنك نسيت اسم سانتيس).
على الفور قلت له: (أبدًا يا أستاذ... لقد ذكرته في كتابي، لكن يبدو أن التوتر جعلني أنسى اسمه في كلمتي)، فابتسم الرجل وقال: (ما دمت قد ذكرته.... برافو عليك).
العجب هنا يكمن في أن الرجل ظل ينصت إلى كلمتي بتركيز شديد لمدة ربع الساعة (والصور تشهد بذلك)، وأنه على علم بشخصية سانتيس. وبالمناسبة هذا فنان إسباني وصل مصر عام 1921 وبقي بها عامين اثنين فقط، عمل خلالهما بالتدريس في مدرسة الفنون الجميلة، كما عمل رسامًا صحفيًّا في مجلة "اللطائف" المصورة، وهو شخص منسي في تاريخنا، فكيف عرفه الأستاذ؟
ألم أقل لك إن هيكل شخصية فريدة ومذهلة، وإن دراسة تجربته المتفردة ضرورة لمن يحلم بالتفوق والمجد؟
سلامتك يا أستاذ هيكل.