الأهرام
يوسف القعيد
حكايات من نوبل
زاد اهتمامنا بجائزة نوبل، وقت أن حصل عليها نجيب محفوظ. عرفنا أن صاحبها أوصى أن تعلن أسرارها كل نصف قرن. مر النصف الأول 1951 ولم يعلن شىء. والنصف الثانى 2001، والحكايات غائبة. لم يبق لنا سوى أن نقرأ ما كتبه الحاصلون عليها من حكايات.

حكاية ماريو فيرجاس يوسا المولود 1936، مع نوبل، التى حصل عليها 2010، مع الجائزة تستحق القراءة. والذى حدث أن أحد كتاب أمريكا اللاتينية الظرفاء اتصل بكاتب ظريف آخر ليبلغه خبر حصول يوسا على جائزة نوبل. فرد عليه قائلاً: يا للعجب. كنت أظن أن يوسا فاز بها منذ ثلاثين عاماً. بالنسبة لى قرأت يوسا قبل أن يحصل عليها بسنوات. ورأيته فى القاهرة. صحيح أنها رؤية صامتة. فلا أنا أعرف الإسبانية ولا هو يعرف العربية.

بعد حصوله على نوبل تسارع وكتب عن مشاعره. كتب مقالاً ولم يكتب قصة. وكان لا بد أن يتم الأمر على هذا النحو. لأن القصة تحتاج لوقت طويل. لكن المقال يمكن أن يعبر عن لحظة عابرة. يعترف يوسا أنه عندما أبلغوه بحصوله على نوبل وقبل الإعلان رسمياً عن ذلك. وخلال أربع عشرة دقيقة فصلت بين إبلاغه والإعلان أنه فكر فى أول مسابقة حصل على جائزة منها، وكان ذلك سنة 1957. وكانت القصة عنوانها: التحدي. وكانت الجائزة ـ وأستعير هنا كلمة يوسف بك وهبى يا للهول ـ أقولها لنفسى ولغيرى من كل الذين يكتبون الأدب فى بلادنا. كانت الجائزة رحلة إلى باريس. ولمدة شهر كامل.

يقول يوسا: قضيت شهراً من السعادة مقيماً فى فندق نابليون وفكرت فى الكلمات الأربع التى تبادلتها مع البرت كاموس ـ يقصد البير كامى كما نسميه فى بلادنا ـ والكلمات التى تبادلها مع ماريا كاساريس عند باب مسرح بوليفار. تذكر جهوده اليائسة والعقيمة لكى يستقبله سارتر. رغم أن الأمر لم يتعد دقيقة واحدة. رأى فيها وجهه وصافحه باليد.

تذكر عامه الأول الذى قضاه فى مدريد. والتردد الذى عاشه قبل أن يقرر إرسال مجموعته القصصية: الرؤساء. إلى إحدى الجوائز الأدبية التى أسسها مجموعة من أطباء برشلونة. والذين بفضلهم رأى يوسا كتابه الأول منشوراً. هل فكر فى بلادنا مجموعة من الأطباء أو الصيادلة أو المهندسين أو العلماء أو أساتذة الجامعات فى تأسيس جائزة يحصل عليها كاتب لم ينشر عمله الأول من قبل؟ وتكون الجائزة نشر هذا العمل؟ بل هل فكرت إحدى الجهات الثقافية عندنا أو المؤسسات الأهلية التى نسميها مؤسسات المجتمع المدنى فى تأسيس مثل هذه الجائزة؟

فى مصر لدينا مشروع مهم فى المجلس الأعلى للثقافة منذ نشأته الأولى سنة 1956 عندما كان اسمه: المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب. هذا المشروع اسمه الكتاب الأول. وهو يقوم على نشر الكتاب الأول لأى كاتب. لا توجد جائزة ولا يحزنون. وهذا مشروع ترعاه الدولة المصرية. يخضع لكل ما تخضع له مشروعات الدولة المصرية من روتين وبيروقراطية.

طبعا كانت لدينا مبادرات فردية وما زالت. كانت لدينا فى مصر جائزة قوت القلوب الدمرداشية. وكانت أول جائزة يحصل عليها نجيب محفوظ فى حياته. وذهب إليها ليطلب منها استثناء لأنه سيتقدم بمخطوطة عمل لم ينشر من قبل. وقد منحته الاستثناء وحصل نجيب محفوظ على الجائزة. ومازالت لدينا مثل هذه المبادرات. ففى الوطن العربى جائزة الشاعرة الدكتورة سعاد الصباح. التى تمنح لشباب من الوطن العربي. من الإبداع الأدبى وتصل إلى البحث العلمي. لكن فكرة إقامة جائزة لكاتب لم ينشر من قبل. وتكون الجائزة نشره. هذا ما لم نعرفه. ثم لا ننسى أن إحدى جوائز يوسا كانت رحلة لباريس. رأى فيها يوسا كامى وسارتر مرة واحدة.

يعترف يوسا بأن الخبر لو كان صحيحاً فهو إذن إنسان محظوظ فى حياته بشكل لا يصدق. لأنه قرر وهو فى الثانية والعشرين من عمره ألا يكون محامياً. وأن يكون كاتباً وكاتباً فقط. ومنذ ذلك الحين. رغم أنه كان يعرف أنه سيعيش مأزوماً مادياً. سينظم حياته بحيث يكرس الجزء الأكبر من وقته وطاقته للأدب. حيث سيبحث عن أعمال تمنحه وقت فراغ يقضيه فى الكتابة. وكان قراراً خيالياً بعض الشىء. لكنه ساعده كثيراً على الأقل نفسياً. ونفذه فى سنوات باريس حيث عمل مدرساً. وعمل فى وكالة الأنباء الفرنسية. وفى إذاعة وتليفزيون فرنسا. وكل هذا سمح له بساعات فراغ قضاها فى القراءة والكتابة.

يقول مرة أخرى لو كان خبر نوبل صحيحاً. ولم يكن نكتة ثقيلة. إذن سيعتبر أنه قضى حياته من خلال مهمة أمتعته بشكل لا نهائي. فكل كتاب كتبه عبارة عن مغامرة مليئة بالمغامرات والاكتشافات والخيالات والأمجاد التى تغوص دائماً والمشاكل. وتخرجه من الاكتئاب والإمساك. فكر فى عجائبية الحياة التى يخترعها الرجال والنساء عندما كانوا مازالوا يسيرون يأكل بعضهم بعضاً. ليتذوقوا حقيقة الحياة الضيقة وينتقلون لأخرى أكثر ثراء وحرية من خلال الخيال.

كان الاتصال الأول به فى السادسة إلا أربع عشرة دقيقة. عندما أبلغه سكرتير لجنة جائزة نوبل أنه حصل على الجائزة. وأن الخبر سيعلن بعد أربع عشرة دقيقة. ولأن مواعيد بلادهم يمكن أن تضبط عليها الساعة مثل السكة الحديد فى مصر قبل أن يهل عليها زماننا المعاصر. ففى الساعة السادسة تماماً بالدقيقة والثانية أكد الراديو والتليفزيون والإنترنت أن الخبر صحيح، وكما قالت باتريشيا: صار البيت مستشفى مجانين. ومنذ هذه اللحظة توقفت عن التفكير وتوقفت تقريباً عن التنفس.

لا تصدق عزيزى القارئ الجملة الأخيرة. لم يتوقف يوسا لا عن التفكير ولا زوجته عن التنفس. لأنه عاش حياته بشكل عادي. وكتب عن لحظة حصوله على الجائزة. وكتب بعد حصوله عليها.

عندما حصل على نوبل قالوا إن روايته المبكرة: المدينة والكلاب عمله الجوهرى الذى قدمه. وإن كنت أعتقد أن نصه الروائي: فى امتداح الخالة، الذى ترجم أحياناً: فى امتداح زوجة الأب، يكاد أن يكون العمل الذى يمكن أن يقدم يوسا للقارئ ليس فى وطننا العربي، ولكن فى الدنيا كلها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف