لا أصدق أن المصريين الذين اخترعوا الدين وعرفوا التوحيد قبل غيرهم من الأمم، وآمنوا منذ فجر التاريخ بوجود حياة أخرى بعد الموت، وأن هناك مساءلة وعقاباً أساسه المفاضلة بين الخير والشر، ولا يزالون أكثر شعوب العالم تديناً تزدحم بهم المساجد والكنائس، ويتميزون دون غيرهم من الشعوب بأنهم شعب طيب يخشى الله واليوم الآخر، يحافظون على صلة الرحم والقربى ويكرمون الجار والضيف والغريب، ويكرهون العنف وسفك الدماء، ويقفون إلى جوار الفقراء والمستضعفين ويرون فى الدين حسن المعاملة.. لا أصدق أن المصريين المحدثين يعانون من أزمة أخلاق ونقص فى الدين يتطلب وقفة انتباه حاسمة تبحث عن حل يعيدهم إلى دينهم، لأن الأمم الأخلاق ما بقيت فإن ذهبت أخلاقهم ذهبوا!.
وبرغم بعض الظاهرات الجديدة التى طرأت على المجتمع المصرى بسبب هجرة الكثيرين بحثاً عن فرص أفضل للعيش أو نتيجة الزحام والتكدس السكانى الشديد وضيق الحياة والرزق فى الريف والحضر على حد سواء، لا يزال المصريون على تماسكهم الاجتماعى والأخلاقى قياساً على غيرهم من الأمم، ولا تزال روابط الأسرة المصرية قوية وحاكمة، ولا تزال الطبقة الوسطى رغم الضغوط الاقتصادية الصعبة التى تعانيها ورغم اختلاف أنماط الحياة وتعدد مطالبها، تربى أولادها على احترام الفضيلة وتجنب العنف، تلزمهم أصولهم الريفية فى الأغلب توقير الكبير ومراعاة قيم المجتمع والالتزام بالحد الأدنى من الآداب العامة وتجنب الفحش والفجور وسوء الأدب، تشكل التربية الريفية حاجزاً وسياجاً مهماً يصون مناعتهم الأخلاقية التى ترفض العيب والرذيلة، وتبقى على المجتمع المصرى متماسكاً رغم انحيازه المتزايد إلى تعليم النساء ورغم الضغوط الاقتصادية التى تدفع المرأة إلى مشاركة الرجل فى العمل حرصاً على تحسين دخل الأسرة، ولا يزال مئات الآلاف من المصريين يفضلون قضاء الأعياد والمواسم فى بيت الأسرة فى الريف، وتكاد جميع قرى مصر دون استثناء تشهد فى الأعياد والمواسم عودة الطيور المهاجرة إلى أعشاشها القديمة يزحمون حارات القرى بسياراتهم، ويشيع أطفالهم فى ملابس العيد بهجة وفرحة فى كافة قرى مصر.
صحيح أن لدينا مشكلة كبيرة مع شرائح واسعة من الشباب يشكلون النسبة العددية الأكبر بين فئات المجتمع العمرية، ويبدون أكثر اجتراءً على واقعهم وأكثر ميلاً للتمرد على سلطة الأبوة التى حكمت طويلاً العلاقات بين الأجيال المصرية، وربما يكونون أكثر إصراراً على مواقفهم وتصميماً على فرض إرادتهم يتسمون بالعناد والرفض، لأنهم ضاقوا ذرعاً بنصائح الكبار التى لم تعد تفيد كثيراً!، وربما يشكو الكثير من الآباء والمدرسين والأعمام والأخوال من النفور المتزايد لهذه الأجيال الجديدة من سماع النصائح والأوامر، وقد يكون صحيحاً ما تؤكده بعض المشاهدات الاجتماعية من تنامى ظاهرة التحرش إلى حد أن 95% من نساء مصر ربما يكن قد تعرضن للتحرش!، ومن المؤكد أن هناك نماذج عديدة لشباب منحرف خاصة فى شرائح الطبقات الدنيا من المجتمع، حيث تتعايش الجريمة مع الزحام والمخدرات، أكثر ميلاً للعنف والجريمة وأقل احتراماً وتقديراً للعلاقات الاجتماعية والروابط الأسرية، لكن ثمة دراسة اجتماعية مهمة عن شباب مصر صدرت قبل عامين تؤكد أن غالبية الشباب المصرى لا تزال بخير، تنحاز إلى مصالح الوطن العليا، وتبدى استعداداً عالياً للتضحية حرصاً على الصالح الوطنى، ويهمها أمن مصر واستقرارها وتدرك معنى العيب ورذائله.. وأظن أن تجربة حرب 73 أكدت بصورة واضحة لا تقبل اللبس أن الأجيال المصرية الجديدة التى كان الكثيرون يشكون من بعض مظاهر سلوكها الذى يتسم بالاجتراء على الواقع والميل المتصاعد إلى الرفض، هى التى حققت معجزة العبور واستطاعت أن تستوعب تكنولوجيات الحرب الحديثة وتبدى بسالة منقطعة النظير أكدت للعالم أجمع أن هزيمة 67 لم يكن سببها غياب عزيمة الرجال أو نقص انتمائهم الوطنى والدينى كما أشيع!، وإنما كان سببها غياب نظم الإدارة والتخطيط والتدريب الصحيح وضعف استراتيجيات المواجهة، وما من شك أن ما حدث فى ثورتى 25 يناير و30 يونيو يؤكد قدرة المصريين الفذة على قهر المستحيل وصلابة إرادة أجيالهم الجديدة.
صحيح أن التطور سنة الحياة والطبيعة والكون، وأن المجتمع المصرى وقد تجاوز عدد أفراده 90 مليون نسمة قد اختلف كثيراً عن المجتمع المصرى فى الخمسينات عندما كان تعداده أقل من نصف هذا العدد، كما أن التكدس والزحام السكانى يفرض على المجتمع المصرى أنماطاً مختلفة من السلوك الاجتماعى أكثر حدة وأقل درجة فى التماسك الاجتماعى والترابط الأسرى، فضلاً عن فشل جهود الإدارة المصرية على امتداد هذه السنوات الطويلة فى حصار الفقر وتصفيته، الذى كانت الأسر المصرية تعتمد طوال القرن الماضى على تعليم أبنائها كى يجدوا فى الوظيفة مخرجاً لحياة أفضل من الفقر المدقع.. وربما يكون صحيحاً أيضاً أننا لم نملك أية استراتيجيات شاملة تساعد مصر على استيعاب طموحات أجيالها الجديدة بعد أن غابت معايير تكافؤ الفرص التى طبقت بصرامة شديدة خلال ستينات القرن الماضى ليحل مكانها توريث الوظائف والمراكز الاجتماعية لأبناء القضاة وأبناء الأطباء، ثم اتسعت الظاهرة شيئاً فشيئاً لتشمل معظم فئات المجتمع العليا!، بينما ضاقت فرص التوظيف الحكومى وتفاقمت بطالة المتعلمين، وأصبحت بطالة الشباب مشكلة كل بيت مصرى تنخر علاقاته الداخلية.
والأشد خطورة من ذلك الضغوط الحياتية التى يتعرض لها الشباب المصرى، ليس فقط لأن معدلات البطالة جاوزت 12% وتكاد تتركز فى بطالة المتعلمين ولكن لأن كلفة الحياة أصبحت باهظة الثمن أكبر من قدرة الشباب على مواجهتها، خاصة ما يتعلق بالإسكان!، حيث يكاد يكون من المستحيل أن يتحصل شاب مصرى على مسكن صغير من غرفتين فى نطاق الإسكان المتوسط دون أن يكون فى حوزته 200 ألف جنيه على الأقل، أو يقدر على دفع إيجار شهرى يتجاوز الألف جنيه، وهو مبلغ باهظ قياساً على دخله المتواضع، إلا إذا أسعدته الظروف وتوافر له مسكن حكومى، لكن عون الدولة مع الأسف لا يزال محدوداً، لا يستطيع أن يغطى احتياجات الجميع.. والأنكى من كل ذلك أن الدولة لا تصيخ السمع لأطياف شباب مصر تسمع آراءهم وشكواهم وتنشغل بحوار جاد مع نصف الحاضر وكل المستقبل، على العكس تكاد تكون فى حالة خصام معهم!.
ويصبح السؤال هنا: هل نحن بالفعل والصورة على هذا النحو من التعقيد الشديد إزاء أزمة أخلاق تحتاج إلى حملة وعظ مضافة يقودها عمرو خالد وآخرون لأنهم الأقدر على نصح هذا الشعب وتذكيره بيوم الحساب.. ولأن مساجد الأوقاف والأهالى على كثرتها لا تقوم بواجبها؟!، أم أن المشكلة فى جوهرها هى مشكلة ضيق عيش تحتاج إلى خطط وبرامج جادة ذات أولويات جديدة، تولد المزيد من فرص العمل للشباب وتمكنهم من سكن ملائم يساعدهم على الزواج وإكمال دينهم كى تنتهى ظاهرة التحرش بكل صورها غير المقبولة؟!، وهل يرمم المزيد من الوعظ والزجر الدينى علاقات الطبقة الوسطى المصرية التى تكاد تتفكك وتعانى من ضغوط اقتصادية شديدة؟!، أم أننا إزاء مشكلات اجتماعية تحتاج إلى تنمية جادة متواصلة تكرس كل جهود الدولة ومؤسساتها لتحسين حياة الإنسان المصرى واحترام حقوقه؟!، وأخيراً هل نعانى بالفعل أزمة أخلاق تحتاج إلى إصلاح النفوس والضمائر بمزيد من التدين والوعظ، أم أن المشكلة فى جوهرها مشكلة اقتصادية اجتماعية سياسية تفرض على الدولة تبنى نهج مختلف يقوم على العلم، ويرقى بأداء الحكومة والمجتمع بما يمكنهما من إشباع الحاجات الأساسية لمعظم فئات الشعب المصرى؟!، وهل يكفى الوعظ الدينى لتحسين أداء الأفراد والمجتمعات؟!، أم أن ذلك يتم بإقامة العدل وحسن تنظيم الموارد والارتقاء بقدرات المواطن على العمل والإنتاج والإبداع، وسد ثقوب الفساد واحترام حقوق الإنسان؟!