الأهرام
محمد ابو الفضل
وقف السباب قبل تعميم الأخلاق
لا أدرى لماذا نصر دائما على وضع العربة أمام الحصان؟ وبدلا من تفعيل القانون لوقف الشتائم والسباب، ندفع أموالا
طائلة للبحث عن تهذيب أخلاق الناس، هل لأن من يقومون بذلك مرتاحون لاستمرار الارتباك، أم أن هذا تفكيرهم وهذه إمكاناتهم؟ وهل اختفت الكفاءات وتاهت المعلومات للدرجة التى تفرض الاستعانة بشخصيات مشكوك فى نزاهتها، أم أن من اختاروهم يريدون مواصلة اللغط والتشويش؟

هذه الاستفهامات تمثل جانبا من أسئلة كثيرة دارت فى أذهان المواطنين خلال الأيام الماضية، حيث جرى الترويج لحملة، تقف خلفها جهات دينية ورسمية وإعلامية للحض على المكارم، كأن القيم تكتسب بقرارات فوقية، ونسى من فكروا فيها أن الأخلاق وليدة تراكمات جيلية، ولن نحقق نتائج إيجابية دون التخلص من الأمراض المزمنة التى تترعرع فى المجتمع، وأهمها سيادة العدالة والمساواة، ومقاومة الفساد، وتطبيق القانون.

قبل تحويل الأخلاق إلى سلعة تباع وتشترى، من الضرورى أن تكون هناك حملة موجهة لوقف السب والقذف والقبح الذى يملأ بعض القنوات الفضائية، والعالم الافتراضى من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، ووضع حد للتجاوزات التى ترتكب فى حق كثير من الأشخاص، بلا محاسبة للقائمين عليها، ومعاقبة من يرتكبوا جريمة نشر الشائعات، وترويج التسريبات، فقد تحول هؤلاء إلى جماعة ضغط أو ما يشبه «المافيا» التى تخيف كل من يهدد مصالحها، أو حتى يفكر فى الاقتراب منها، وأصبح السباب جهاز ردع فعالا.

الازدواجية التى تسير عليها أمور كثيرة فى مصر، كشفت عن جملة من الرسائل العميقة، أبرزها أن هناك انفصاما داخل جدران عدد كبير من مؤسسات الدولة، وأن من يوصفون بـ «الملائكة» الذين يقفون خلف نشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة يقابلهم ما يسمى بـ «الشياطين» التى تستمتع بالفصول المقززة للردح والسباب، وليكون الدور الذى يقوم به الفريق الأول مجديا يجب اتخاذ الخطوات اللازمة لمنع زحف أنصار الفريق الثانى.

يمكن تفسير حالة الانفصام إلى سببين، أحدهما أن «شياطين الإنس» فى الفريق الثانى تحالفوا ضمنيا مع «ملائكة الإنس» فى الفريق الأول، وهذه المسألة ضد نواميس الطبيعة، لأن الخير والشر لا يجتمعان على هدف واحد، وبافتراض حدوث تفاهم مؤقت بينهما، فإن الصدام قادم لا محالة، وهو ما يقودنا إلى التفسير الآخر، وهو أن أنصار كل فريق يعملون بصورة منفصلة عن الفريق الثاني، فهذا يتبنى رؤية، وذاك له رؤية مناهضة، بشكل يعكس نوعا جديدا من التناقضات.

المشكلة أن الهم الرئيسى لفريق السباب وضع العراقيل وتكسير وهدم ما ينوى أن يبنيه فريق الأخلاق، فى السلطة أو خارجها، وظهرت ملامحه قبل أن تنطلق حملة «أخلاقنا» الإعلامية، والتى حفلت بجملة من الأخطاء، بدءا من اختيار واجهتها (الثعلب الإخوانى كما وصفه المؤلف الكبير وحيد حامد) وحتى آليات عملها، فقد أصبح نشر الشتائم والفضائح والإثارة أسلوب حياة، ولا يخلو من أهداف سياسية.

بافتراض وجود تفاهم بين أنصار الفريقين، فإن الهدف السياسى المشترك يكمن فى شغل الناس بقصص وروايات ونوادر طريفة ومثيرة، وخناقات الفرق الرياضية، وهروب أو إقالة المدربين، وحضور الجمهور مباريات كرة القدم من عدمه، وسلسلة طويلة من التراشقات والبذاءات، كلها علامات يتم توظيفها، وتدل على أن ثمة مستفيدين من تكريس الارتباك، كما أن قصص صافيناز ومحاكمتها بارتداء علم مصر، ومتابعة الجدل حول ترشح سما المصرى للبرلمان، تدخل ضمن باب اللهو وجذب انتباه الناس بعيدا عن القضايا الحيوية، وهناك نماذج كثيرة يمكن وضعها تحت هذا العنوان.

أما فى حالة التفسير الثاني، أى التنافر بين الفريقين، فإن البعد السياسى حاضر أيضا، فالأشرار يلجأون إلى توسيع نطاق الفضائح والجرى وراء كل ما هو مثير وتسليط الأضواء عليه، وهم يعلمون خطورة البلبلة التى تنجم عن أفعالهم، لكنهم يريدون عدم الاستقرار للدولة، ويسعون إلى تمديد فترة العشوائية أكبر فترة ممكنة، أملا فى قطع الطريق على اللجوء إلى منهج المحاسبة والعقاب.

لك أن تتخيل أن غالبية من يتمسكون بأهداب الشرف والنزاهة ومحاربة الفساد، هم من ينشرون «الغسيل المهلهل» أمام الجميع، لذلك تشعر على الفور بأنهم بعيدون تماما عن باب القيم الحقيقية، ويلجأون إلى هذه الوسائل لمنح خطابهم قدرا من المصداقية، وردع خصومهم وإشاعة الذعر فى صفوفهم.

الأزمة تأتى من عدة جوانب، فى مقدمتها أن من يشيعون الصخب، لهم امتدادات داخل بعض المؤسسات القوية فى الدولة، ما يجعل الناس تفهم أن الكلام الذى يتفوهون به أحيانا له غطاء سياسي، فلم يجدوا حتى الآن من يحاسب أو يعاقب أو حتى ينهر، وربما العكس وجدوا من يصمت ويطبطب ليضفى عليهم المزيد من التدليل والشرعية، وهذه نقطة خطرة، لأن مضمونها يحمل جهات رسمية مسئولية السباب، فى حالة الموافقة الضمنية أو الرفض.

إذا كان ما يجرى يتم عبر تفاهم مسبق بين «شياطين وملائكة الإنس» فهذه مصيبة، لأن الثقة المنعدمة فى فريق الشر سوف تنسحب على ما يمكن وصفه بفريق الخير، وإذا كان يندرج ضمن المعارك والصراعات التقليدية فى المجتمع ولم تتم مقاومته، فالمصيبة أعظم، لأن معناه العجز وعدم القدرة على المواجهة، وأن الأشرار لهم أنياب وأظافر طويلة، بحاجة إلى خلعها تماما، بعد أو وصلت إلى مرحلة تشى بالتوحش.

الوسيلة الأساسية للتخلص من هؤلاء اختيار أقصر الطرق للنجاح، واتخاذ الإجراء الطبيعى فى هذه الحالات، وهو العودة لوضع الحصان أمام العربة، أى الاحتماء بالقانون الذى يحمى الأخلاق وغيرها، حيث يعد تطبيقه حرفيا على من يرتكب فعلا يشتم منه رائحة التجاوز، أحد المداخل المادية المهمة التى نحتاجها، لأنه يحمى من اللجوء إلى حملات معنوية مشبوهة مثل «أخلاقنا» تثير الاستفزاز أكثر مما تجلب الاستقرار، فقد أعطت هذه الحملة إيحاءات أن هناك رغبة لاستمرار الدوران فى الحلقة المفرغة التى تبدو عملية مغادرتها بحاجة إلى إرادة حديدية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف