يجلس «طارق» يقرأ سطور قصيدة نزار قباني المكتوبة بخط يد جميل ومنمنم في الكراسة الزرقاء.. هكذا أسمتها «شهد».. إنها الكراسة التي تدون على صفحاتها وبخط يدها فقرات تعجبها في رواية تقرؤها، أو مقاطعَ من قصيدةٍ لامست قلبها، أو جملةً مأثورةً أو حكمةً عششت في ذاكرتها.
كانت «شهد» في غرفتها تستعد لاستقباله بعدما أبلغتها خادمتها «نادية» أنه في الـ«ليفينج روم».. استغل «طارق» تلك الدقائق في تفقد أحوال «شهد» من خلال كراستها الزرقاء، وكتبها المرصوصة على مكتبها الصغير في غرفة المعيشة، يدفعه فضوله دائمًا لأن يعرف ما الذي يشغلها الآن، وفي أي ركنٍ من أركان الذاكرة ترسو سفينتها.
كانت «شهد» قد اعتادت رفقة الأقلام والورق وكتبها في الفترة الأخيرة، تهوى تدوين كل شيء عن أي شىء يستوقفها أو يحرِّك داخلها شيئًا أو ذكرى ما.
كانت لعبة الزمن لاتزال تجذبها، فتلك القصيدة الجميلة لنزار قباني اختارتها من كتابه «الشعر قنديل أخضر»، وكتبت تعقيبًا من عندها:
هذه القصيدة كتبها نزار قباني قبل أن أولد.. ولدت بعدها بعدة أشهر، لكنني عدت وعشتها في برشلونة بنفس إحساسه وأنا في الأربعين من عمري.. سافرت بقلبٍ حزينٍ أجتر ذكرى حب قديم.. حب اخترقني في الأعماق ثم عبرني إلى الأفق اللانهائي.
***
ظهرت «شهد» مشرقةً في كامل حيويتها وأناقتها، فلقاؤها بـ«طارق» هو دائمًا المفجر لطاقة الحب داخلها.. رأت الكراسة الزرقاء في يديه يقرأ صفحاتها باستغراقٍ.. لم يكن أحد قبل «طارق» مسموحًا له بأن يقرأ في تلك الكراسة أو حتى أن يراها عن بُعد، فقد كانت «شهد» تحتفظ بها وسط شكمجيتها الخاصة التي تضم أسرارها، لكنها و»طارق» الآن أصبحا كيانًا واحدًا مقسومًا على اثنين.. توءمة إنسانية فريدة تتجاوز مشاعر الحب بين رجل وامرأة.
جلست أمامه بابتسامةٍ ودود تسأله:
- ما الذي استوقفك في كراستي يا «طارق»؟
- فتنتني الراقصة الإسبانية..
بانفعالٍ وحماسٍ قالت «شهد»:
- آه من تلك القصيدة.. كتبها نزار قباني بإحساس عالٍ جدًّا.. عبَّر عن الرقص الإسباني «الفلامنكو» بجمل عبقرية وتشريح حقيقي للإحساس.
غاص «طارق» في ملامح وجهها الأخَّاذ.. في هذه المرأة شىء ما لا يستطيع تفسيره، شيء يجعلك تستمتع بالنظر إلى وجهها وعينيها الناطقتين بألف معنى، ويجعلك تستمتع بالحديث معها واكتشاف جمال آخر لديها، فالحوار معها متعة عقلية وروحية ونفسية وإنسانية.
سألها:
- كان سفرك إلى برشلونة بعد موت «خالد».. أليس كذلك؟
أومأت برأسها:
- نعم.. كنت أمرُّ بحالةٍ نفسيةٍ سيئةٍ جدًّا، وانتهزت فرصة مهمة عمل أوفدني فيها البنك إلى إسبانيا، وسافرت لأختلي بنفسي وأغسل أحزاني.
- وماذا أعجبك في رقص الفلامنكو؟
- أعجبني؟ قل بهرني.. راقص الفلامنكو يذوب بجسده في معنى الجملة الموسيقية.. الإحساس هو البطل الرئيسي وليس الحركة، فكل حركة تصدر من أحد أعضاء الجسم تحدث بإشارة من الإحساس المتدفق وبأوامر من المخ الذي يستغرق تمامًا في قصة الرقصة ويتوحد مع معانيها.
- الرقص الإسباني قصة يا «طارق».. فن رفيع ورائع.. هل شاهدته من قبل؟
ابتسم بسعادة وقال:
- شاهدته، وحدث لي مثلما حدث لكِ تمامًا، لكنني كنتُ أريد أن أستمع منكِ إلى هذا التحليل الجميل لرقص الفلامنكو.. الحديث معكِ يا «شهد» متعة لا يعادلها شيء.
- شكرًا يا صديقي العزيز.. والآن ما رأيك في فنجانين من القهوة من يدي؟
- لا.. أنا أفضِّل نخرج شوية يا «شهد».. عاوز أكلمك في موضوع يحتاج إلى تركيز.. تعالي نقعد في سوفيتيل الجزيرة.. انتِ بتحبي الـ«فيو» هناك.. منظر النيل، والنبيذ، والوجه الحسن.
ضحكا وغادرا البيت متجهين إلى سوفيتيل الجزيرة.
***
كان «طارق» قلقًا طوال الطريق من بيت «شهد» و«أحمد» بالشيخ زايد إلى الفندق الشهير المطل على نيل القاهرة.. لم يكن يدري كيف سيكون وقع الخبر عليها.. صحيح يعرف جيدًا أن «أحمد» لم يكن أبدًا في بؤرة تفكيرها، وأنه بالنسبة لها ليس إلا زوج مثالي مهتم ببيته وأولاده، لكنه يدرك أيضًا أن كبرياء المرأة يأبى هذا الموقف.. أن يجيء الزوج ويعترف لزوجته التي عاشرها لسنوات طوال، وبنى معها مؤسسة زواجه بكل مفرداتها وتبعاتها.. إنجازاتها وإخفاقاتها، يعترف أنه - وبعد كل هذه السنين - وقع في حب امرأةٍ أخرى، ويريد أن يعيش معها حياته المقبلة، ويستعيد في رفقتها شبابه الضائع ويعوِّض بين أحضانها أيامه الرتيبة، ويحوِّل مشاعر الأخوة الباردة مع شريكته القديمة إلى مشاعر متأججة بالرغبة والمتعة والإشباع مع الشريكة الجديدة.
المرأة لغز، هذا صحيح، فقد تكره زوجها أو تكفُّ عن حب رجلها، لكن ذلك لا يمنعها من الثورة والغضب إذا ما اكتشفت انصرافه من عالمها إلى عالم امرأة أخرى.
الحب شيء وكبرياء الأنثى شيء آخر.. هذا ما قرأه في الروايات وتابعه في قصص الكثيرين من أصدقائه وصديقاته في معترك الحياة.
تلاحظ «شهد» شرود «طارق»، وتقرأ في عينيه الكثير من الكلام.. هي تعرفه جيدًا وتكاد تقرأ ما يدور في رأسه من صراعات وأفكار، لذلك باغتته بسؤالها:
- ما الذي يقلقك يا «طارق»؟ هات ما عندك دون تفكير.. هل تفكِّر في السفر لرؤية «جيسيكا»؟ أم...
يقاطعها «طارق» ليرمي كرة النار بأقصى سرعة، ويتخلَّص من توتره:
- «أحمد» يريد الزواج من امرأة يعرفها منذ فترة يا «شهد».. قال إنه يخاف من الزنا خُصُوصًا بعد أن حجَّ واعتمر أكثر من مرة.. هو كلَّفني بإخبارك لأنه لا يقوى على مواجهتك، ويقول عنكِ شعرًا في إنسانيتك وفرادتك وحُسن......
تقاطعه بنبرةٍ حاسمةٍ، ووجهٍ احتدَّت ملامحه فجأةً، وتقلَّصت عضلاته:
- أخبره بأنني أطلب الطلاق فورًا، وقل له إنني لا أريد منه شيئًا على الإطلاق، وأبلغه تهنئتي.. زواج مبارك.
يبتلع «طارق» ريقه ويحاول أن يكمل الرسالة التي حمَّله بها صديقه الحميم:
- هو يريدك أن تبقي، فهذا سوف يكمل سعادته لأنه يحبك ويحترمك ويحفظ العِشْرة الطويلة بينكما.
تضحك بتهكُّم:
- قل له إنني لن أبقى ولا أريد منه شيئًا، أما ولدانا فلهما حق الاختيار.. «سيف» و«سارة» الآن شابان، يستطيع كل منهما أن يختار أين يعيش، ومع من..
- لكنه يعرض عليكِ يا «شهد» شراء شقة باسمك في أي مكان تختارينه، كما أنه يتعهد بإرسال مبلغ شهري ثابت للنفقات.
بنبرةٍ متعاليةٍ رافضةٍ تقول «شهد»:
- قل له يوفِّر فلوسه.. الحمد لله عندي ميراث أبي، ومكافأة نهاية الخدمة التي صرفها لي البنك عندما استقلت تكفيني حتى أقابل وجه الله.. لا أريد منه أي شيء.. شكرًا.
يقترب «طارق» من «شهد».. يربت على كتفها بحنان.. تصده بعصبية:
- لستُ في موقف ضعفٍ يا «طارق».. أنت بالذات لا أستطيع أن أستقبل منك مشاعر الشفقة والعطف.. أنا قوية يا «طارق» وأنت تعرف ذلك.
تجهش «شهد» فجأة بالبكاء، كأن بركان الأحزان قد انكسر غطاؤه فجأةً وتناثرت حممه في كل مكان.
لم يتكلم «طارق»، ولم تتكلم «شهد».. غاصت رأسها الصغيرة في صدره وتوقفت لغة الكلام.. لم يكن هناك شيء يُقال.. كان الصمت في تلك اللحظة أقوى من الصراخ.