القرآن منبع كل خير وسعادة. وقد جعل الله تعالى لأهله منزلة خاصة. فقد روى ابن ماجة وأحمد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنْ النَّاس"، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قَالَ: "هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ". (صححه الألباني في "صحيح ابن ماجة").
ولا يكفي مجرد التلاوة أو الحفظ ليكون المرء من أهل القرآن. قال المناوي: "حفظة القرآن العاملون به هم أولياء الله المختصون به اختصاص أهل الإنسان به، سُموا بذلك تعظيما لهم".
وقال الحكيم الترمذي: "إنما يكون هذا في قاريء انتفى عنه جور قلبه، وذهبت جناية نفسه، وليس من أهله إلا من تطهر من الذنوب ظاهرا، وباطنا، وتزين بالطاعة. (فيض القدير).
ما من آية تسمعها أو تكتبها أو تقرأها أو تنظر إليها، في حديث أو كتاب أو صلاة؛ إلا كانت حجة لك، أو عليك.
لذلك كان الصحابة يقفون معه حرفا، حرفا، وآية، آية، وكانوا يتبعون سماعه أو تلاوته بالعمل به.. ذلك أنه من حمل كتاب الله كأنما حمل النبوة بين دفتي صدره، لذا ينبغي أن تحرص على الكمال، وأن تتعاطى أسبابه، في أخلاقك، ومهنتك، ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
كان الصحابة - بحق - "جيل القرآن"، فقد فتحوا قلوبهم له.. والوا عليه، وعادوا.. ومنه استمدوا، وسادوا.. حتى أصبح كل واحد منهم "قرآنا يمشي على الأرض"، بل كانوا "رهبان الليل.. فرسان النهار"، حسبما قيل.
وقد جمع الله تبارك للصحابة في القرآن خصلتين هما: العلم به، والعمل به.. فكان الواحد منهم تبكيه الآية، وتفرحه الآية.. يعيش الوعد والوعيد، والشوق والتهديد. فعاشوا معه بجوارحهم وأشواقهم، وكانوا معه على الحقيقة.
إذ تلا الواحد منهم آيات الجنة طار قلبه شوقا إلى الروح، والريحان، كأنه يقطف من ثمارها، أو يتكيء على أرائكها، أو يتجول بين أشجارها، وثمارها، وأنهارها.. وإذا تلا آيات "النار" ذكر غضب الديان، كأن زفير النيران بين أذنيه.
إنها أمة أحبت كتاب الله صدق المحبة، فلما رأت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - يعلمها آياه علموا أنه القول الفصل، والجد لا الهزل، الذي يحتاج إلى من يحمل همومه، وغمومه، ويبادله مشاعره، وشجونه.
فإذا أردت أن تنظر إلى جيل القرآن في أبهى صورة، وأجمل حلة، فانظر إلى تلك الأمة، واقرأ عن سيرة أصحاب المصطفى، صلى الله عليه وآله وسلم.
قدَّم لنا "إبن عباس"، ترجمان القرآن، نموذجا عمليا في وجوب لزوم القرآن، وتعلمه منذ الصغر، إذ كان يلتزم باب زيد بن ثابت، تُسِفُه الريح، منتظرا خروجه ليسأله عن كتاب الله، فيسأله عنه آية آية.
وقف "يوم عرفة" يخطب المسلمين، ويفسر القرآن، فقال عنه أحد التابعين :"لو رأته الفرس والروم لأسلمت.. من حسن بيانه، وجمال بهائه".
كما ربى جيلا كاملا من التابعين، على مائدة القرآن والتفسير، ومنهم: مجاهد، وسعيد بن جبير.
يقول مجاهد: "عرضت القرآن على ابن عباس ثلاث مرات، اسأله عنه آية آية".
وهكذا.. ما إن توفي الصحابة حتى كانوا قد غرسوا محبة القرآن، والإخلاص له، في قلوب التابعين، فكانوا رجاله. وأكرم بهم من رجال.
يقول تعالى: "مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا". (الأحزاب : 23).
قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: "أعقب الثناء على ثبات المؤمنين ويقينهم واستعدادهم للقاء العدوّ الكثير بالثناء على فريق منهم وَفَّوْا بما عاهدوا الله عليه وفاءً بالعمل والنية، زيادة في الثناء، لأن الرجُل مشتق من الرِّجْل، وهي قوة اعتماد الإنسان، كما اشتق الأيد من اليَد، فالمراد منها: "رجال من المؤمنين ثبتوا في وجه العدو يوم أُحُد".