الوطن
د. محمود خليل
هيكل.. كبير «المحترفين»
لقاء وحيد جمعنى بالأستاذ محمد حسنين هيكل، بمكتبه على النيل، ذهبت إليه بصحبة الصديق الأستاذ مجدى الجلاد، أحد من عشقوا الصحافة وعشقتهم. أذكر أن اللقاء كان قبل موجة الثورة فى 30 يونيو 2013 بحوالى خمسة أشهر، دار بين ثلاثتنا -حينئذ- حوار حول مستقبل الرئيس محمد مرسى وجماعة الإخوان فى الحكم. لن أحكى لك ما دار فى الحوار، فهو خاص بمن شاركوا فيه، لكن دعنى أسجل لك بعض الانطباعات الذاتية التى خرجت بها عن شخصية الأستاذ.

أول هذه الانطباعات أننا نجلس أمام شخص «محترف»؛ محترف على كل المستويات، يتحدث باحترافية، ويدير حواراته باحترافية، وكذا علاقاته مع الأجيال المختلفة من أبناء المهنة، وظنى أن منطق الاحترافية لم يغب أيضاً عن الطريقة التى أدار بها «هيكل» حياته المعيشية، فعرف كيف يحافظ على لياقته الصحية والذهنية لعقود طويلة كادت أن تكمل قرناً من الزمان. أذكر أنه كان يحدثنا وفى يده «سيجاره» الشهير، لكنه لم يكن مشتعلاً، هذا المشهد رأيته فى لقاء آخر جمعنى بشيخ الصحفيين الراحل الأستاذ حافظ محمود، الذى التقيته عندما كنت طالباً بكلية الإعلام، لكن الرجل يومها كان يمسك بسيجارة عادية غير مشتعلة، يشد منها نفساً بين حين وآخر، فى محاولة لإيهام نفسه بأنه يدخن، ويبدو أنه كان ممنوعاً من تلك الآفة.

الانطباع الثانى أننا نجلس أمام شخص يجيد «التخفى وراء اللغة». فاللغة لدى البشر العاديين أداة للإفشاء، فى حين تبدو لدى الممتازين أداة لـ«التخفى» وأحياناً «المناورة». والشهادة لله فقد كان الأستاذ هيكل بارعاً فى «النحت اللغوى» القادر على ستر أوضاع، وحقائق أوجاع. يمتلك الأستاذ «هيكل» -على سبيل المثال- براءة اختراع كلمة «نكسة» فى وصف ما حدث فى يونيو 1967، كان ألم المصريين عنيفاً، وإحساسهم بالسقوط مدوياً، فتمخض عقل «هيكل» عن هذه المفردة لوصف ما حدث، حتى لا تتعمق الجراحات باستخدام كلمة «هزيمة». إلى «هيكل» يعود الفضل أيضاً فى سك مصطلح «مرشح الضرورة»، وليس ذلك بمقام تحليل إنتاج الرجل الغزير على هذا المستوى، لكن «هيكل» كان يؤدى بمنطق أن الإعلامى ظاهرة لغوية قبل أى شىء، وأنه يؤثر باللغة أكثر من أى أداة أخرى، حتى ولو كان تأثيره بإشاعة الخطأ. التاريخ يذكر مثلاً أن «هيكل» أشاع خطأ لغوياً ساد الخطابات الصحفية والسياسية لمدة طويلة، هو مصطلح «القوتان الأعظم»، خلافاً لصحيح اللغة «القوتان العظميان». وما أكثر ما تسكع هذا الخطأ على ألسنة الساسة والإعلاميين طيلة فترة الستينات والسبعينات.

الانطباع الثالث أننا أمام شخص «يسكن التاريخ أكثر مما يسكن الواقع»، كان لدى «هيكل» شغف شديد بالتاريخ، وولع بإسقاط أحداث التاريخ على الواقع، لا خلاف على أن إسقاطاته التاريخية أحياناً ما كانت تصح أو تصيب فى تفسير حركة الواقع، لكن ذلك لم يكن مرده صلاحية فكرة أن «التاريخ يعيد إنتاج نفسه»، قدر ما كان يعود إلى الواقع المريض المفلس الذى يعيد إنتاج نفسه بلا كلل ولا ملل. «هيكل» كان حاذقاً بدرجة كبيرة فى تسكين الواقع فى دواليب التاريخ، لكن ظنى أن الواقع المعيش بكل تفاعلاته ومشاهداته تجاوز هذه الفرضية منذ سنوات. رحم الله الأستاذ «هيكل» الذى شكل جزءاً من تاريخ الصحافة والسياسة فى مصر لعقود متوالية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف