ولأننا على أعتاب أزمة اقتصادية لا يريد أحد أن يجاهر بتفاصيلها أو تداعياتها، ولا نجد من بين المحللين مَن يصدق الناس القول فى حقيقة وضع الأسعار وما قد تصاب به من تضخم وارتفاع فى الفترة القادمة، ولا نجد من بيننا ملامح لتضافر جهود التيارات السياسية المختلفة لحل الأزمة، بل على العكس تحول بعضهم إلى شامتين وكأن الدولة المصرية عدوتهم وخصمهم اللدود، فى الظاهر ربما تكون فريدة فى بشاعتها أن تجد تيارات أو أفراداً ينتمون لوطن أو هكذا المفترض قادرين على السخرية منه أو الشماتة فى أزماته أو تمنى انهياره فقط، لأنهم يكرهون السلطة.
لذا فى قضية الأسعار كُن عوناً للناس بالمساعدة وللدولة بالحلول والبدائل أفضل من أن تكون شامتاً أو ساخراً أو مروجاً لكثير من الأخبار المغلوطة، وفى «إحياء علوم الدين» يقول أبوحامد الغزالى إن رفع الظلم واجتنابه هو أول طريق الحل: «وقد أمر الله تعالى بالعدل والإحسان جميعاً، والعدل سبب النجاة فقط»، ويقول فى موضوع آخر عن صاحب التجارة والمال: «لأن البيع للربح ولا يمكن ذلك إلا بغبن ما، ولكن يراعى فيه التقريب، فإن بذل المشترى زيادة على الربح المعتاد، إما لشدة رغبته أو لشدة حاجته فى الحال إليه، فينبغى أن يمتنع من قبوله، فذلك من الإحسان» ولتفسير السابق من حديث «الغزالى»، تكمن فى الأثر قصة دالة، حيث كان يونس بن عبيد يبيع بعضاً من الملابس مختلفة الأثمان، ضرب قيمة كل حلة منها أربعمائة، وضرب كل حلة قيمتها مائتان، فمرّ إلى الصلاة وخلَّف ابن أخيه فى الدكان، فجاء أعرابى وطلب حلة بأربعمائة فعرض عليه من حلل المائتين فاستحسنها ورضيها فاشتراها، فمضى بها وهى على يديه، فاستقبله «يونس» فعرف حلته، فقال للأعرابى: بكم اشتريت؟ فقال: بأربعمائة. فقال: لا تساوى أكثر من مائتين فارجع حتى تردها. فقال: هذه تساوى فى بلدنا خمسمائة وأنا أرتضيها. فقال له «يونس»: انصرف فإن النصح فى الدين خير من الدنيا بما فيها. ثم ردّه إلى الدكان وردّ عليه مائتى درهم، وخاصم ابن أخيه فى ذلك وقاتله، وقال: أما استحييت أما اتقيت الله تربح مثل الثمن وتترك النصح للمسلمين، فقال: والله ما أخذها إلا وهو راضٍ بها. قال: فهلا رضيت له بما ترضاه لنفسك. دلالة هذه الرواية السابقة أن أبوحامد الغزالى حينما ضمنها فى كتابه «إحياء علوم الدين»، قال نصاً إنه إذا حدث إخفاء للسعر أو تلبيس فيه فإن ذلك يدخل فى باب الظلم، ولأن موسم الحديث عن أزمة اقتصادية هو موسم الاحتكار والتلاعب بالأسعار، دعنا نذكرهم بأن النبى عليه الصلاة والسلام قال فى «صحيح مسلم»: «لا يحتكر إلا خاطئ»، والاحتكار هو كارثة الكوارث، وتحريمه يدفع الضرر عن الناس، بمعنى أنه لو كان عند تاجر طعام واضطر الناس إليه، ولم يجدوا غيره، أجبر على بيعه دفعاً للضرر عن الناس. الحل الأخير لأى أزمة تلاعب فى الأسعار وضعه سيدنا عمر بن الخطاب، ومنه وبه يتعامل أهل أوروبا مع أى موجة ارتفاع أسعار، حينما كان سيدنا عمر خليفة المسلمين جاء إليه الناس غاضبين وقالوا: نشتكى إليك غلاء اللحم فسعّره لنا، فقال: أرخصوه أنتم؟ فقالوا: نحن نشتكى غلاء السعر واللحم عند الجزارين، ونحن أصحاب الحاجة فتقول: أرخصوه أنتم؟ فقالوا: وهل نملكه حتى نرخصه؟ وكيف نرخصه وهو ليس فى أيدينا؟ فقال كلمته الخالدة التى صارت دستوراً لمقاومة غلاء الأسعار: اتركوه لهم.