الأهرام
عائشة عبد الغفار
هيكل العملة الذهبية فى زمن التنوير
لا أكاد أصدق أن الأستاذ هيكل قد رحل ومن الصعب أن أنعيه وإنما وجدت لزاما عليَّ أن أكتب عنه من باب المجاملة أو التهذيب بقدر ما أعطى لى ولتلاميذه وتلميذاته المقربين والمقربات من اهتمام ومواصلة وبقدر ما امتد حوارنا على مدى أكثر من أربعة عقود.. أتذكر يوم مقابلتى الأولى مع الأستاذ عقب تخرجى فى الجامعة ببضعة شهور.. تحدد الميعاد من خلال العزيزة السيدة جيهان السادات بعد أن أخطرتها والدتى وصديقتها الحميمة برغبتى الملحة فى أن أنضم إلى هذا الصرح الاعلامى العريق الذى بهرنى مبناه الأنيق وأنا أمر فى شارع الجلاء بالصدفة البحتة، فاعتذرت للرئيس السادات الذى عرض عليَّ تعيينى بالرئاسة وهربت من رغبة أسرتى بأن أدخل فى السلك الدبلوماسى واخترت أن أكون «جورنالجية» وشدتنى مهنة البحث عن المتاعب.

يوم مقابلتى مع الأستاذ كان الجو ممطرا ووصلت متوهجة ومتأخرة ببضع دقائق مقدمة الاعتذار بأننى قادمة من المعادى ووجدت أمامى شخصية ودودة.. مبهرة.. كاريزمية، محدثة.. مولعة بالتاريخ بحيث قادنا الحديث من السريالية إلى الأدب الفرنسي، إلى المدرسة الصحفية الفرنسية وأصدقائه بيير لازاريف وزوجته «هيلين» إلى أبعاد الحرب العالمية الثانية والحرب الأهلية الاسبانية التى كان يعرف عنها هيكل الكثير، إلى الكاتب «هيمينجواي» وروايته الرائعة «من أجل من تدق الأجراس»! ففتح لى هيكل أبواب المعرفة والسياسة والدبلوماسية واحتضنى تلميذة وأختا وصديقة وكلفنى بتنظيم ندواته الدولية والاقليمية والمحلية واستقبال كبار زواره الأجانب ومن بينهم «دارا جانيكوفيك» رفيقة كفاح الرئيس «تيتو» والسيدة تحية عبد الناصر وحرم كنيث تومسون.. وشاركت «دارا» فى اعطائها كل الوسائل اللوجيستيكية لإخراج فيلم تسجيلى عن «الأهرام» الذى وصفته بأنه مفرخة العلماء وأن أهرام هيكل أشبه بمعمل علمى أو مجمع فكري.. وقدمنى للرئيس ميتران خلال زيارته للأهرام وشاركت فى ندوات الأهرام ومن بينها ندوات كان يستمع فيها العقيد القذافى إلى الامكانيات الفكرية للأهرام فى محاولة لترميم فكره إلى جانب ندوات التعمير الحضارى الذى كان الدكتور محمود فوزى دائما فيها ضيف الشرف وندوات الفكر الاستراتيجى من خلال استضافة العالم الأمريكى العراقى الأصل «توماس الساعاتي».

وفى يوم ما استعان الأستاذ ليعرف أكثر عن مقولة سيدة فرنسية «حريتى حريتى كم من جريمة ارتكبت فى حقك»؟ هل كانت «مدام دى ستاييل» أم «مدام دى لاسابليير» ونجحت فى التوضيح المطلوب وتم اختيارى ضمن وفد يشكل لجولة إلى أمريكا اللاتينية ولكن الحظ لم يحالفنى حيث ودع هيكل الأهرام فى اطار اختلافات فى وجهات النظر السياسية بين الرئيس الراحل السادات والكاتب الصحفى الذى كان يرى أنه لا يجوز أن نضع البيض كله فى سلة واحدة بالنسبة لعلاقاتنا مع الولايات المتحدة الأمريكية، وشعرنا جميعا بالأسف الشديد على غياب قائد أوركسترا الصحافة العظيم ومشيد مبنى الأهرام الحديث الذى تكلف أيامها أربعة ملايين جنيه فقط لا غير لأن الزمن لم يكن بعد «زمن على بابا والأربعين حرامي»! ووضع هيكل تصور المبنى مازجا التصور الحديث لدار «المانيتشى» باليابان والـ «لندن تايمز» بانجلترا التى زرتها بعد ذلك.. ثم تواصلت علاقاتى به على مدى عقد من الزمن قضيته فى باريس زارنى الأستاذ فى بيت الطالبات الكائن بالحى اللاتينى ليطلع على تجربة «عصفور من الشرق» وعلى حياة المبعوثين فى فرنسا ثم زارنى مرة أخرى مع شريكة حياته السيدة المثالية هدايت تيمور بشقتى الكائنة فى «حى باسى» بالحى السادس عشر وفى وجود سفير فرنسا الأسبق ببيروت السفير الشهير« بيير ميليه» وزوجته «صوفيا» و«نيفين عبد الوهاب» كريمة صديقه الحميم «الدكتور محمد عبدالوهاب» الذى أنشأ ناديا لأصدقائه فوق التسعين ومن بينهم هرمان من أهرام مصر الخالدة الدكتور «بطرس غالي» والأستاذ «هيكل» وجاهين لعملة واحدة هى عملة الفكر والبحث والمثابرة والشجاعة وكان الدكتور غالى يقول لى دائما أنا معجب بالأستاذ هيكل لمناهضته وانتصاره على المرض.. فلم أفق من صدمتى على رحيل الدكتور غالى الذى ودعته يوم الأحد الماضى بمستشفى السلام قبل أن يقابل ربه حتى أخطرنى الزميل عزت إبراهيم برحيل الأستاذ هيكل خلال ندوة اليابان والشرق الأوسط بفندق «سوفيتيل»! وأقول لنفسى أننى محظوظة اننى عرفت عن قرب الصرحين العظيمين هيكل وبطرس والتى تشابكت حياتهما إلى حد ما.. واقترب الرجلان من بعضهما على المستوى الإنسانى وتبادلا الاحترام برغم اختلاف الأيديولوجيات ولنعد إلى ذكرياتى مع الأستاذ فلقد دعانى كثيرا على مآدبه «بالكريون» و«اليونسكو» ومطاعم «افينى مونتيني» « Avenue Montaigne » وبمنزل السفير المصرى بباريس صديقه المرحوم نجيب قدرى وكان لا يفارقه أبدا حسه الصحفى فى كل حواراتنا وكنت أطلعه على أحاديثى مع السياسيين الفرنسيين وكان يعطينى النصائح الصائبة واصطحبه إلى مكتبة «برينتانوس» ليختار كتبه وقبيل اعتقاله كان يزور عاصمة النور التى كان يعشقها ويحظى فيها بأصدقاء حميمين وعقب استقباله للرئيس ميتران ووصوله إلى الفندق حيث كان على ميعاد مع الأستاذ عبدالملك خليل مراسلنا فى روسيا وجدت حركة غريبة فى بهو استقبال الفندق من بعض مخبرى الأمن الذين فكرونى بقصيدة «بابلو نيرودا» المخبر!

فقلت له اننى أشعر أنهم يستخبرون وراءك بعد لقائك مع «ميتران».. ولأن هيكل رجل قدرى لن ينزعج وعاد إلى القاهرة وخلال فترة اعتقاله أرسلت للعزيزة هدايت كلمات كان قد أهداها لى هيكل عند اجتيازى محنة فراق مدمرة! «ليس فى مقدور البشر أن يتحكموا فى المقادير ولكن فى مقدور البشر أن يرتفعوا فوقها فليكن الله معك وليعطك شجاعة الصبر، وتقبلى عزاء من زملاء أسعدتهم زمالة العمل معك!» كم كان الأستاذ كريما ومتواضعا!

شريط سينمائى يدور فى ذهني.. لقطاته كثيرة ومحطاته عديدة رغم انقطاعات مفروضة بسبب عامل الزمن والمكان.. وإنما كان كلها زخما ثقافيا وفكريا ومكاشفة ومصارحة لم تنلها أى صحيفة وربما لأنها كانت خالية من الانتهازية ومن الصفقات، كنت أبحث عن ملء صدرى بالأمل.. طاردتنى نوستالجية هيكل الذى إذا استمر على عرش الأهرام كان بالطبع سوف يوفر لنا المعوقات والاحباطات.. وكان قد اختلف بالتأكيد مستقبلنا.. كان سوف يكون أكثر اشراقا وانصافا وعلوا..

ودعته قبل سفره إلى «اشبيليا» وجلسنا على مدى أكثر من ساعة ونصف نتحاور.. والفضل يعود إلى مديرة مكتبه الأستاذة جيهان حلمى فقلت له لماذا لا تكتب ما لم تقله بعد؟ مثل «جان دورميسون» يجب أن تخرج معلوماتك عن الماسونية فى مصر وفى صعيد مصر.. تحدثنا عن قضايا التحول الاجتماعى وإلى أى مدى شارك فى صناعة القرار؟ سألته من الذى وضع نظام الحراسات والمصادرات ضد الرأسمالية الزراعية والصناعية الوطنية.. فأجابنى على صبري!! طلبت منه أن يصدر طبعات جديدة من بعض كتبه الهامه يحذف فيها الفقرات التى كتبت على أثر غضب وقتي! ثم أهديته كتابا صدر مؤخرا فى باريس بعنوان «الليلة الأخيرة للرئيس» لياسمينا خضرا عن القذافى يجسد قصة كل الديكتاتوريين.. فعلق كان شخصية غريبة ومتناقضة.. الحديث يطول عن ذكرياتى مع الأستاذ الذى يعتبر بلاشك أهم رموز التنوير فى العصر الذهبي.. أتذكر زيارتى له فى «الرواد».. عندما اشتكيت له من تهميش الأستاذ إبراهيم نافع لى ـ الذى لا أكن له أى ضغينة بعد أن اكتشفت من أين جاء لى الأذى وكيف أن الوسط الصحفى «سلة عقارب» ولأننى تعلمت من أهلى «العفو للإساءة» وكيف أن القصور الثقافى والجهل هو الذى يؤدى إلى الظلم..

قال لى بلغة أبوية «عائشة لقد دخلت فى تاريخ الصحافة» وهى كلمة اعتقد فيها أنه كان صادقا والحمد لله سلكت مسلكا محترما فى بلاط صاحبة الجلالة مثل عدد من زميلاتى اعتز بهن مثل عايدة رزق وأهداف البندارى والغالية بهيرة مختار والموهوبة سناء البيسى والصديقة آمال بكير والناقدة التشكيلية نجوى العشري.. أستأذنت مودعة قائلة هل سوف تكتب لى مقدمة كتابى القادم؟ فهز رأسه موافقا. قلت لا تتوقف عن الكتابة.. لأن لا أحد يستطيع أن يباريك ككاتب صحفى من طراز فريد ولا تتوقف عند سهام تلقى عليك لمحاولة للايقاف عن التعبير!كان هذا هو الوداع الحقيقي. وعندما ودعته يوم 17 فبراير بسيدنا الحسين ثم إلى مثواه الأخير «دار العودة» شعرت بالقيمة التى فقدناها فى هيكل على المستوى الانسانى وإنما سوف تستمر كتبه وفكره نبراسا لأجيال من الاعلاميين وسوف يكون معنا على الدوام.. لأن «الذكريات السعيدة أصدق من السعادة نفسها» وكما قال إبراهيم عيسى فهيكل كاتب مؤسسى ظل 41 سنة خارج السلطة، وإنما الكاتب سلطة بذاته وسوف تظل مواقفه السياسية الأخيرة إزاء التوريث ونظام شاخ وعفى عليه الزمن ملء السمع والبصر. كانت سياسته وجدانية موسوعية وكان يتميز بعبقرية «التشكيل اللغوى» عربيا وانجليزيا وحتى فرنسيا.

كان نافذا إلى قلوبنا ولهذا قلت له خلال احتفال الأستاذ لبيب السباعى له جملة «سانت اكزيبيري» «لا نراك جيدا إلا بقلوبنا فالأشياء الجوهرية لا تراها العين المجردة».

وفى الأمس قرأت حديثه الذى أدلى به لرئيس تحرير الأهرام محمد عبدالهادى وأسرة التحرير يوم 27 ديسمبر الماضى والذى قال فيه إن الصحف الكبرى مثل الأهرام لن يهتز عرشها ووظيفتها السامية لم تتغير مهما تقدمت التكنولوجيا.

برهن فى هذا الحوار الذى القى الأضواء على استقلالية هيكل إزاء السلطة عندما تم ترشيحه لرئاسة تحرير الجمهورية وأجاب أفضل أن أعمل مع صحفيين محتر فين وأكد أن الأهرام مزيج من اللوموند والتايمز والتلجراف ولعل أهم وجهة تنويرية تركها لنا هى أهمية الانفتاح على العالم وفتح الشبابيك، «افتحوا الشبابيك» ...

رحم الله أستاذى الكبير وصديقى الحميم.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف