نخطئ حين نصر على دفن رؤوسنا فى الرمال. وعندما نعتقد أن العلاقة بين الشعب والشرطة ما زالت قوية، ونتعمق فى الخطأ حين نبرر التصرفات الحمقاء بأنها فردية ونهين شهداء الشرطة عندما ندفع بهم فى بيانات الوزارة عند كل أزمة.. ونستغفل المصريين حين نقحم الإخوان وعملاءهم فى مثل هذه التجاوزات.
هزتنا بشدة تلك الهتافات التى رددها أهالى الدرب الأحمر بعفوية بعد مقتل ابنهم «عادل» أمام مديرية أمن القاهرة، وأعتقد أنها المرة الأولى التى يظهر فيها هذا الهتاف منذ ثورة 30 يونيو على ألسنة عدد كبير من الناس غير مسيسين، وبالتالى لا يجب التعامل مع هذه الواقعة على أنهم رقم فى مسلسل تجاوزات الشرطة، بل إن رد الفعل سواء ما قام به «الأمين» ضد الشاب، أو قيام الأهالى بضرب أمين شرطة آخر، وترديدهم لهتافات معادية، إلا أنه تراكم من الغضب الطبيعى ضد ممارسات الشرطة سواء كانت فردية أو غير ذلك.. نتيجة لحوادث كثيرة من التعذيب وممارسات تتسم بالعنجهية والصلف لم ترقَ إلى درجة التسجيل بالدليل أن هذا الحدث لو جرى منذ عامين أو عام ونصف العام لما تطور بهذه السرعة، كما أن أهالى الدرب الأحمر وما حوله من أحياء الجمالية والسيدة زينب وعابدين كانوا وقود ثورة 30 يونيو، وتأييد دستورها فى 2014، ورئيسها عبدالفتاح السيسى.. هم الغلابة الذين يتحدث عنهم ولهم الرئيس.. هم أولاد البلد الجدعان الذين دافعوا عن مديرية أمن القاهرة أيام الإخوان.. وهم أيضاً الذين ذهبوا إليها بعد تفجيرها ليهتفوا: «الشعب والشرطة إيد واحدة».. «لا إله إلا الله.. الإخوان أعداء الله».. هم الذين لم تستطع الجماعة الإرهابية اختراق ميدان التحرير من جهتهم، فيأتوا عبر شارع الكورنيش الذى لا يسكنه الغلابة!!
الأخطر من كل هذا، أن الناس تفقد الثقة فى العدل، رغم محاكمة عدد كبير من الضباط والأمناء الفترة الماضية، لكن كل الأمور كما هى: بيانات وزارة الداخلية مضللة.. عدم وجود خطة للمواجهة الشاملة وحل الأزمة من جذورها.. غياب تعامل الوزارة مع الرأى العام.. عدم تحرك النيابة العامة بسرعة فى مثل هذه الأحداث، ما يعنى أن المنظومة كلها تحتاج إلى مراجعة وعدم اختزال الإصلاح فى تعديلات تشريعية، يمكن أن تعيد الأمناء مرة أخرى إلى حظيرة المحاكمات العسكرية داخل الوزارة، ولا أعرف ماذا يفعل وزراء الداخلية السابقون والقيادات التى خرجت على المعاش، وأين دور اللواء أحمد جمال الدين، مستشار الرئيس للأمن، فى أخطر مشكلة تواجه النظام الحالى، بل والدولة المصرية، ولماذا لا يتم تشكيل مجلس استشارى من الكفاءات المختلفة للوصول إلى استراتيجية أمنية تواجه الإرهاب وتراعى كرامة المواطن، وتعلى من الكفاءة والتدريب والعلم؟ خاصة أن القيادات الحالية تدير العمل اليومى المزدحم والمرهق، ولا أعتقد أنهم يملكون رؤية للمستقبل، ولن أنسى أن وزارة الداخلية أيام اللواء محمد إبراهيم احتفلت بعيد الشرطة بعد ثورة 30 يونيو، دون أن تدعو رجلاً بشعبية اللواء أحمد جمال الدين، بينما تم دعوته فى الحفل المسائى، الذى أقامته القوات المسلحة، ثم احتفلت الوزارة بعيد الشرطة الأخير، ودعت «جمال الدين» بصفته مستشاراً لرئيس الجمهورية، بينما لم تدعُ اللواء محمد إبراهيم، الذى انتقدت أداءه كثيراً وقت توليه المسئولية، رغم أنه ما زال مستشاراً لرئيس الوزراء، فمتى يتم الاستفادة من الجميع، وأين اللواء محمد إبراهيم، وزير الداخلية فى حكومة د. كمال الجنزورى، وغيرهم؟
قابلت مسئولاً أمنياً كبيراً أثناء افتتاح الرئيس لمشروع الإسكان الاجتماعى بمدينة 6 أكتوبر، وسألته: لماذا لم تتخذ إجراءات رادعة ضد أمناء الشرطة بالمطرية، فأجاب: حصل، تم إيقافهم عن العمل وتحويلهم للنيابة.. فقلت: ولكن الواقعة فظيعة وتم تصويرها والناس تحتاج إلى إجراءات أكثر حسماً، فأجاب: الأطباء كمان غلطانين، فقلت: لكن الناس ستصدقهم وتكذبكم، كما أن مشهد التجاوزات ستعاد مشاهدته ملايين المرات، وكثيرون سيتحدثون عنه، لكنكم لم تصدروا إلا بياناً واحداً بإجراءات لا تتناسب مع الواقعة، فقال الرجل: ليس أمامى إجراء لم أفعله.. ما يتيحه القانون فعلته.. فأجبت: فلتغير القانون أو اللائحة، لكن لو ظلت الأمور على هذا الحال، فستنتهك الداخلية والدولة على طول الخط. انتهى الحوار وتكرر المشهد مرة أخرى فى الدرب الأحمر، وسيتكرر مرات ومرات طالما لا يوجد مسار آخر للتفكير ووضع الحلول المناسبة، وترك التنفيذ للحكومة، خاصة أن العمل اليومى فى مؤسسات الدولة أصبح يلتهم وقتاً وجهداً كثيراً.
مما لا شك فيه أن مشهد 30 يونيو خلق علاقة تاريخية بين الشعب والشرطة، وجعل لوزارة الداخلية -قد يكون للمرة الأولى فى تاريخها- جمهوراً يحبها، ويقدر دورها، ويحميها ويدافع عنها، بل ويتحمل كثيراً من أجل أن يصمد هذا الجهاز الأمنى العريق، لكن كثيرين من الجمهور غيروا من توجهاتهم، والبقية ما زالوا صامدين خوفاً من الفوضى، وليس حباً أو انبهاراً.. وبالتالى يجب البحث فوراً عن إجراءات فاعلة، لتعود الشرطة إلى أحضان الشعب، لا أن يردد مواطنون بسطاء شعارات وهتافات تعيد إلى الأذهان ذكريات بغيضة.. وليعلم الجميع.. أن الشعب هو الحامى والمعلم، وإذا كان «عادل» قد مات فإن «العادل» حى لا يموت!