التحرير
جمال الجمل
التكفير الليبرالى
دفع الدكتور نصر حامد أبو زيد ثمنا غاليا مقابل دراسته الجريئة عن مفهوم النص، والتى دعا فيه إلى تحرير العقل العربى من سلطـة النصوص، فقد رأى أننا أصبحنا عبيدا للكلمات، ومنحناها قداسة جعلت النص أقوى من الواقع، ومن مصالح الناس، ومع الوقت صار لهذه النصوص حراس وكهان يفسرونها بما يخدم مصالحهم، حتى لو تعارضت تفسيراتهم مع الحياة ذاتها.

المؤسف أن هيمنة النص تحولت مع الوقت إلى نوع من قمع المنطق والعقل، وأدت إلى حالة من الخضوع الأعمى ليس للنصوص المقدسة وفقط، ولكن لأى نص، وهذا ما يحدث الآن فى حياتنا السياسية، وطريقة تعاملنا مع الدستور، حيث يتفق المجتمع على مجموعة من القواعد الحاكمة، وعادة ما تكون مجرد مبادئ إنسانية تعترف بمجموع الحريات والحقوق والواجبات التى توصلت إليها الإنسانية طوال مسيرتها، وبعد ذلك نبدأ فى تفصيل منظومة القوانين والقواعد بما لا يتعارض مع روح الدستور، لكننا خلال الممارسة العملية لشؤون حياتنا نكتشف أن الدستور كمرجعية تحول إلى صنم وتكئة للتعطيل ومركز لتصادم التفسيرات التعسفية، ظاهرها الالتزام بالنص، وجوهرها التعسف فى تأويله بشكل متزمت لتحقيق مصالح الفئات القادرة على التلاعب به وتوظيفه لصالحها، فالمواطن العادى مثلا يتعرض يوميا لانتهاكات دستورية فى مجال عمله، وفى الشارع، وفى علاقة السلطات المختلفة بحياته، ولا يعرف ماذا يفعل ولا كيف يتصرف فى هذه الانتهاكات، وطبعا لا يقدر على توكيل محام من الكبار القادرين على استخراج الشىء وعكسه من قلب النص الدستورى، لكن الأمر يختلف بالنسبة إلى الشركات الكبرى، والأحزاب، والنقابات، وكبار الشخصيات.

لم يكن هناك نص يسمح لدهاقنة النص بمحاكمة الدكتور نصر بتهم التكفير والارتداد التى قذفوه بها، وكان لا بد أن يجدوا طريقا لمعاقبته، فلجؤوا بخبرتهم إلى نص مهجور فى قانون الأحوال الشخصية، واستخدموا مبدأ الحسبة وحصلوا على حكم بتفريق الدكتور أبو زيد عن زوجته قسرًا استنادا إلى قاعدة فقهية تقضى بعدم جواز زواج المرأة المسلمة من غير المسلم!

هكذا أصبح الدكتور أبو زيد كافرا ومرتدا بقانون لا يتضمن أى نص للتكفير أو المحاسبة عليه!

هذه المأساة لا تخص شخصا، لكنها مشكلة مجتمع يخترع القواعد ثم يصبح عبدا لها، وأسيرا لمن يجيد لوى عنقها وتوظيفها لوقف المراكب السايرة، فالدستور مجرد نص يحتاج إلى عقل موضوعى للتعامل معه بما يضمن تحقيق مصلحة المجتمع، أما محاولة التلاعب به، فلن تفضى بنا إلى شىء، فأى نص لا يعنى الكثير فى ذاته، لأن تأويل النص هو الذى يجعل منه مصدرًا للخير، أو مصدرًا للشر، فإذا تغاضينا عن النظر إلى الدستور باعتباره مجموعة من المبادئ العامة، وتعسفنا فى تفسير كل فقرة، فلن نستطيع أن نكمل خطوة واحدة على أى طريق، لأن التفسيرات تتكاثر بعدد الأشخاص، والمحكمة الدستورية ستتحول فى نهاية الأمر إلى مؤسسة لغوية تهتم بالنص أكثر مما تهتم بالواقع، وبذلك إما تصبح عقبة فى طريق الديمقراطية، وإما تخون وظيفتها القانونية وتضطر لمراعاة الاعتبارات السياسية، وتدخل فى لعبة توازنات مع السلطة التنفيذية، وفى الحالين قد تنكمش درجة الثقة فيها، وتزداد الخصومات والمهاترات بين الفئات المتصارعة باسم القانون، فخلال أسبوع واحد قضت المحكمة بعدم دستورية تقسيم الدوائر وكذلك بعدم دستورية منع ترشح مزدوجى الجنسية، استنادا إلى مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص، وهذا المبدأ ضمانة عامة لا تعنى تساوى فرص الجميع، بدليل أن مزدوج الجنسية أصلا لا يتساوى مع حامل الجنسية المصرية منفردة، لا فى فرص العمل، ولا فى الامتيازات القانونية المعيشية، فكيف يتمتع بمبدأ المساواة وينال من فى الخارج فرصة تمثيل من فى الداخل؟!

إذا كان القرآن الكريم كنص سماوى منزه قلاب أوجه ، فإن الدستور لا يمكن أن يكون محل اتفاق قاطع، وبناء على ذلك تجب المواءمة بين بنود الدستور وحاجة الواقع السياسى والمعيشى، فليس من الملائم أن يتحول الدستور إلى عقبة فى طريق الديمقراطية.. يا سادة اعتبروه دستورا لمرحلة انتقالية لا يجب أن نتمسك بحذافيره، لأننا لم نصل إلى هذه الدرجة من الإتقان فى أى مجال، ولو تزمتنا فى الحساب فلن نتحرك خطوة على أى طريق.

أيها العقلاء إن كلمة كلب لا تنبح ولا تحرس، فلا تقتلوا نصر أبو زيد مرتين.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف