الأخبار
محمد فهمى
الانفتاح علي الجنوب
آن الأوان للاتفاق علي أطر وبرامج للانفتاح علي الجنوب بمفهوم العصر وتحدياته وأدواته

شاءت الأقدار أن تأتي استضافة مصر لمنتدي الاستثمار في افريقيا الذي بدأ اعماله في شرم الشيخ أمس بحضور رؤساء كل من السودان ونيجيريا وتوجو والجابون وغينيا الاستوائية ورئيس وزراء اثيوبيا.. بعد أيام قليلة من الخطاب الذي استهل به الرئيس عبدالفتاح السيسي الجلسة الافتتاحية لأول برلمان مصري منتخب استكمالا لخارطة الطريق.

كان الخطاب والكلمة يجمعهما خيط واحد يعبر عن رؤية سياسية للانفتاح علي الجنوب ومد خطوط التفاهم والتعاون مع الدول التي يربطنا بها مجال حيوي واحد في ظل عالم جديد يتشكل بعد انتهاء الحرب الباردة وظهور قوي اقتصادية بدأت تطل علي الساحة الكونية بثقافة تقوم علي التعاون وتبادل المصالح بين الدول التي تقع في مجال حيوي واحد تربطها عوامل الجغرافيا الطبيعية والجغرافيا الانسانية والتاريخ المشترك.

وحان الوقت بعد التحولات التي طرأت علي العالم في السنوات الاخيرة لاستئناف علاقاتنا الاخوية مع دول الجنوب والتي دأبت الدول الاستثمارية خلال حقبة الحرب الباردة علي عرقلتها ووضع الاسافين والصعاب كيلا يقوم أي شكل لتبادل المصالح بين الدول الشقيقة التي تقع في مجال حيوي مشترك وفي مقدمتها المجال الحيوي الافريقي.

والمثير في الموضوع أن مجرد الاتفاق داخل كل دولة علي انتهاج سياسة الانفتاح يؤدي تلقائيا وعفويا الي قيام مشروعات وافكار ورؤي شعبية لم يكن يتوقعها أحد من قبل الاعلان عن هذه السياسة.. وهو ما حدث عندما أعلن المستشار الألماني الراحل فيلي برانت سنة ١٩٦٩ عن سياسة الانفتاح علي الشرق «الاوستبوليتيك».. في ظل ظروف دولية حادة.. وفي ظل حرب باردة ضروس.. بيد أن مجرد الاعلان عن الفكرة التي جالت بخاطره.. أدي لاحياء الآمال داخل شعوب الدولتين الألمانيين في تحقيق الوحدة والتقارب.. وان ثمة أملا في تحقيق الوحدة.. التي تحققت بعد ذلك بفعل سياسة الانفتاح علي الشرق.. ولقيت الفكرة ترحيبا شعبيا لم يكن يتصوره أحد!

الآن نحن نقتدي بالفكرة.. ونطرحها بمناسبة انعقاد منتدي الاستثمار في افريقيا.. بحيث يكون الاستثمار هو أحد موضوعات التقارب الذي يجب أن يشمل العلاقات الثقافية والفنية.. وتبادل الزيارات بين فئات الشباب.. والفرق المسرحية ناهيكم عن المباريات الرياضية وايجاد اجواء شعبية تسمح بالانفتاح علي كافة المجالات.

وعندما نتحدث عن المجال الحيوي الافريقي.. فنحن في الواقع.. لا نبدأ من تحت الصفر.. اذ بدأت علاقاتنا بالاشقاء في الدول الافريقية.. ومن بينها أثيوبيا بالطبع.. في وقت مبكر لم تكن الغالبية العظمي من الدول الافريقية قد تحررت بعد من قبضة الاستعمار.. وكانت مصر هي الحاضنة لحركات التحرير الافريقية من خلال المقار والمكاتب التي خصصتها لمندوبي وحركات التحرير بالمبني رقم ٥ بشارع حشمت بالزمالك.

ولا أود في هذه العجالة الخوض في تفاصيل هذه العلاقات التي استمرت طوال حقبة الستينيات من القرن الماضي.. ولكنني أتصور أنه قد آن الأوان في ظل الرؤية السياسية الجديدة أن نبدأ في استئناف مسيرة العلاقات مع الدول الافريقية وانتهاج سياسة متكاملة.. تقوم علي المصالح المتبادلة.

لقد آن الأوان للاتفاق علي أطر وبرامج للانفتاح علي الجنوب بمفهوم العصر وتحدياته وأدواته.. وأن ندرك منذ البداية أن قضية الانفتاح علي الجنوب هي قضية شعوب.. وليست مجرد قضية يمكن تناول تفاصيلها في جلسات مغلقة بين أصحاب سلطة اتخاذ القرارات.. وانما هي قضية شعوب يتعين طرح تفاصيلها للنقاش العام.. ومن خلال برامج الاذاعة والبرامج الموجهة باللغات الافريقية والندوات العامة.. لسبب بسيط هو انه لا يمكن انجاز سياسة الانفتاح علي افريقيا.. خلال فترة زمنية قصيرة فقد تتغير بتغير الحكومات أو تبادل الأحزاب للسلطة. وانما هي قضية أجيال سوف ترتبط أساليب حياتها.. بأنماط جديدة.. من العلاقات الإنسانية.. التي تفتح آفاقا جديدة للعمل وفتح آفاق التعاون والتنسيق بين التكتلات الاقتصادية في ربوع العالم.. وفق ثوابت لا تتغير ولا تتبدل مع الأيام.

والمشكلة هنا قديمة وعميقة الجذور.. وكان قد أشار إليها الراحل العظيم بطرس غالي الذي ودعناه في جنازة عسكرية مهيبة تليق بمكانته الفكرية منذ أيام.. ولا تزال هذه الاشارة صحيحة حتي لحظة كتابة هذه السطور وهي:

أنه علي الرغم من أننا نضع في صميم سياستنا.. علاقاتنا بافريقيا.. فإن اهتمامنا بشئونها لم يزل علي غير ما كان ينبغي.. فليست لدينا مجلة متخصصة في الشئون الافريقية.. ومعهد الدراسات الافريقية مازال في حاجة ماسة إلي التعمق في شئون افريقيا ومشاكلها.. والكتب التي تصدر عن المشاكل الافريقية.. وتعالجها معالجة علمية أصيلة قليلة.. بل هي أقل من القليل.

ويمضي الراحل بطرس غالي إلي القول:

أما الرأي العام المثقف في بلادنا فإن اهتماماته في جملتها تتجه نحو الشمال المتقدم.. سواء منه الغربي الرأسمالي أو الشرقي الشيوعي في حين ان اهتماماته بالجنوب الفقير المتخلف من الكرة الأرضية والذي تقع ضمنه القارة الافريقية جد ضعيفة.. بل هي ضعيفة جدا.

هذا الكلام الذي نشره الراحل بطرس غالي بمجلة رسالة افريقيا في ستينيات القرن الماضي.. لا يزال صحيحا.. ويدعونا الآن ونحن نعبر مرحلة ثورية لتصحيح هذه الحالة.. ونحن ندعو لوضع رؤية جديدة لمجالنا الحيوي والإنفتاح علي افريقيا.. اكتفاء بما ضاع منا خلال عقود طويلة تراجعت فيها سياستنا الافريقية بشكل مذهل أدي إلي احالة قضية سد النهضة الاثيوبية لوزارة الري في مشهد ليست له مسابقة.. لا في تاريخنا القديم.. ولا تاريخنا الحديث.. ولا في تاريخ العالم.

وفي إحدي الجلسات التي كان يحضرها السادة عبدالمنعم الصاوي والسفير مصطفي راتب وحلمي خوادي روي لنا الدكتور بطرس غالي مفارقة طريفة تستحق الرواية.

قال إن السويد أكثر منا اهتماما بالشئون الافريقية وانه عندما زار السويد سنة ١٩٦٨.. لإلقاء سلسلة من المحاضرات بمعهد همر شلد للدبلوماسيين الافريقين بمدينة أوبسالا.. وجد انه في هذه المدينة الجامعية معهد للدراسات الافريقية الاقتصادية والسياسية.. وان هذا المعهد يضم مكتبة صغيرة يصل إليها كل عام نحو ٧٥٠ مجلة تهتم بالشئون الافريقية.. ما بين مجلات اسبوعية واخري شهرية.. وقال الراحل بطرس غالي أيامها.. ان هذا العدد يبلغ اضعاف اضعاف ما يصل إلينا من مجلات متخصصة في الشئون الافريقية.. وان هذا المعهد يصدر مؤلفات باللغة السويدية تبين حقائق القضايا الافريقية للرأي العام في السويد خاصة.. وفي البلاد الاسكندنافية عامة.. ويصدر أيضا مؤلفات باللغات الانجليزية واخري باللغة الفرنسية.. لهذا الغرض نفسه.. وقد بلغ مجموع ما أصدره هذا المعهد من مؤلفات منذ انشائه سنة ١٩٦٢ وحتي سنة ١٩٦٨ اربعة وعشرين مؤلفا.

ومضي الراحل بطرس غالي في روايته إلي القول بأنه علي الرغم من أن السويد تقع في أقصي الشمال من الكرة الارضية علي مشارف القطب الشمالي.. فانها اكثر اهتماما بشئون القارة الافريقية مع انها قارتنا. ومع اننا نعيش فيها.

أريد أن اقول أن حديث الرئيس عبدالفتاح السيسي حول حرص مصر علي استعادة مكانتها في افريقيا.. وانتهاج سياسة شاملة للانفتاح علي افريقيا.. علاوة علي انعقاد منتدي افريقيا ٢٠١٦ في شرم الشيخ.. هذه الايام.. كلها علامات علي طريق طويل.. لانه يتعلق بالمستقبل.. وعلينا قبل البدء في السير علي هذا الطريق.. ان نضع الاسس لمؤسسات وجمعيات ومعاهد ومراكز أبحاث.. متخصصة في الشئون الافريقية وتبادل الزيارات علي مستويات الرحلات المدرسية لنشر ثقافة جديدة تعمل علي تعميق الصلات والأواصر بالدول التي يجمعنا معها مجال حيوي واحد ومصالح مشتركة يتعلق البعض منها بقضايا الحياة والموت.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف