الوفد
كامل عبد الفتاح
بطرس ومحمد..
قد تكون رسالة لها معناها لدي من يستهويهم تأمل الأشياء والظواهر والغوص في أعماق الأحداث والأشخاص أن يرحل خلال ساعات عن دنيانا رجلان كل منهما يمثل قيمة كبرى وكلاهما شغل مساحة من التاريخ الحديث يستحقها.. الراحلان الدبلوماسي العريق الدكتور بطرس بطرس غالي والكاتب السياسي والجورنالجي العالمي محمد حسنين هيكل.. بين الاثنين عام في الميلاد.. الدكتور بطرس مواليد 1922 والأستاذ هيكل 1923.. وفي الموت بينهما ساعات حيث فارق الدكتور غالي الحياة قبل الاستاذ هيكل بساعات قليلة وكأنهما على موعد مع رحلة أخرى في عالم آخر تأخذهما فيه دروب جديدة في فضاء جديد لا نعرف أسراره، وقد يبدأ الدبلوماسي مهمة مختلفة لفهم تعقيدات وخفايا عمر جديد وكذلك الصحفي قد يبدأ مهمة جديدة يسعي من ورائها لخبطة صحفية ومانشيت يجلجل في فضاء بلا حدود.. في كلية الاعلام رأيت الدكتور غالي لأول مرة أستاذاً ومحاضراً جميلاً وضحوكاً وخلوقاً.. كان عالما بمعني الكلمة درس لنا مادة سياسة دولية وكان يحاضر لأكثر من خمسمائة طالبة وطالب في مدرج بالدور الرابع لكلية الاقتصاد والعلوم السياسية حيث لم يكن لكلية الإعلام مبني مستقل بعد.. كنت أشعر أن الدكتور غالي يشرح كما لو كان يغني – فهو لا يتوقف عن سرد المعاهدات والاتفاقيات الدولية التي تضع الإطار العام للقانون الدولي المعاصر وينطلق مثل لحن لا يعرف النشاذ وفي المرات القليلة التي كان يخرج فيها الدكتور غالي عن المحاضرة كان بهدف صحصحة النائمين أو الغافلين منا ومرة قطع الشرح فجأة ووجه كلامه لأحد الطلبة كان يتثاءب «اقفل بقك هتبلع البنت اللى جنبك».. وبعد خمسة وثلاثين عاماً التقيت بالدكتور غالي (مايو 2013) لإجراء حوار معه استمر لساعتين لصالح القناة الأولي للتلفزيون المصري ضمن حلقات برنامج «الآخر» الذي كنت أقدمه آنذاك.. وأذكر أنني حين سألته متى بالتحديد قررت الإدارة الأمريكية عدم التجديد لك كأمين عام للأمم المتحدة أن قال لي – أعتقد من العام الأول لي بالمنظمة الدولية وحكي لي أنه حين دعا لعقد اجتماع بالمنظمة الدولية يحضره رؤساء الدول الخمس الكبرى لأول مره لعرض خطته لإصلاح الأمم المتحدة وتحدث أمام الرؤساء وردد جملة «إن الأمم المتحدة تفتقر لمفهوم الديمقراطية الدولية» أن أحداً من الحاضرين لم يلفت انتباهه ما قصدت إلا الرئيس الأمريكي جورج بوش الذي استوقفني بعد انتهاء الاجتماع وقال لي.. يا مستر بيتر ماذا كنت تقصد بمفهوم «الديمقراطية الدولية» وأجبته أنه يا سيادة الرئيس لا يعقل أن يتحكم في مصير العالم خمس دول باسم الفيتو والعضوية الدائمة. ويضيف دكتور بطرس – أعتقد أن بوش من هذه اللحظة قرر بينه وبين نفسه أنني لا يجب أن استمر لفترة ثانية أميناً عاماً للأمم المتحدة وأكمل من جاء بعده المهمة.. أما الأستاذ محمد حسنين هيكل فأعتقد بيني وبين نفسي أنني تعلمت في مدرسته وتخرجت من جامعته والتزمت بيني وبين نفسي أن أظل واحداً من مريديه والجامعين لكل كلمة يكتبها والمسجلين لكل كلمة يقولها.. تابعت وتتبعت الأستاذ في كل وقت وكل مكان وأتصور أنني جمعت الكثير عنه ورغم عدم اقترابي منه إلا أنني ظللت أدور في فلكه منتشياً بالدوران وبروح صوفية بديعة حين يسمو الإنسان فوق إيقاع الزمن وأصوات الناس واحتياجات البدن ليهيم في عالم يعشقه ويتشرب من نوره.. لقد كانت عبارة في كتاب أو جملة في حديث للأستاذ كفيلة بأن تعيدني إلي لحظة البدء إنساناً جديداً يرى العالم ويفهمه من زاوية مختلفة وغير مسبوقة.. أول كتب الأستاذ «إيران فوق بركان» اشتريته من سور الأزبكية القديم بالعتبة في نهاية السبعينيات وحين قرأته لم أصدق أن هذا أول كتاب للأستاذ وكان عمره وقتها لم يبلغ الثلاثين عاماً.. حلق بي هذا الطائر الأسطوري في عوالم مختلفة ونقلني إلي هضاب من الحقائق الجديدة التي من فوقها لابد أن تعيد النظر في كل ما استقر لديك من أفكار، قيمة الأستاذ أنه كان حين يكتب أو يتحدث مثل ظاهرة طبيعية حين تتحقق أو تتحرك فالمكان والزمان بعدها ليس كما كانا قبلها.. رحل بطرس ومحمد أصدقاء العقل والقيمة والزمن والسمو والوطنية والحرية.. رحلا معا كما عاشا معا لم يفرق بينهما اسم أو عقيدة دينية كانت أو سياسية.. رحلا معا كجناحين للحقيقة والرقي والقيمة الكبرى في وقت عزت فيه علينا الأيام بمثلهما.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف