بصراحة شديدة لم أكن قد سمعت عن حكاية محمد وهدان. ولم أكن قد رأيت الفيلم التسجيلي الذي أخرجه سعيد شيمي من انتاج المركز القومي للسينما عن هذه الحكاية.
حكاية محمد وهدان تستحق التسجيل فعلاً.. فهو فدائي مصري من بورسعيد. شارك في حرب 1956 عندما تعرضت المدينة الباسلة للعدوان الثلاثي الذي شنته بريطانيا وفرنسا وإسرائيل في نوفمبر ..1956 في أثناء القتال وقع وهدان في قبضة البريطانيين. وقاموا باقتلاع عينيه واستخدامها لترقيع قرنية الضابط الذي أصابه في المعركة وانتهي العدوان ولم تنته بالطبع قصة المقاتل الذي صار كفيفاً..
قبل إجراء العملية في قبرص طلب الضابط البريطاني من محمد وهدان "تصريحاً" بأن أهالي المدينة رحبوا بقدوم البريطانيين لانهم يرفضون سياسة عبدالناصر السيئة وذلك في مقابل أن يتركوا له عيناً واحدة يري بها ولكنه رفض طلبهم وحين طلب هو منهم كوب ماء بعد أن نال العطش منه رفضوا لأن عبدالناصر لم يرسل له ماء "!!".
وبعد إذاعة حكاية هذا الفدائي اتصلت مستمعة من بورسعيد وعرضت التطوع بإحدي عينيها وطلب مقابلتها وأفهمها صعوبة قبوله لهذا العرض وشكرها وحين عرف انها فتاة لم تتزوج. عرض عليها الزواج وبالفعل تزوجا وأنجبا بنتين صارت إحداهما دكتورة والثانية مهندسة والاثنتان تزوجتا وصار له أحفاد وبالتالي أصبحت السيدة حميدة حسن إسماعيل ليست فقط رفيقة دربه وعينيه اللتين يري بهما وانما أيضاً أم بناته وجدة أحفاده ونور حياته وامتدت العلاقة سنوات طويلة إلي أن توفاها الله منذ فترة قليلة.
الفيلم يبدأ بهذه الزوجة الطيبة بينما توقظ زوجها وتعد له القهوة مع الإفطار ثم تقرأ له الصحف.. وينتهي بالأسرة مكتملة الأم والأب والبنات والأحفاد..
ومع البداية الحميمة للفيلم نسمع أغنية عبدالحليم حافظ البديعة "يا تبر سايل بين شطين" أغنية لنهر النيل شريان الحياة. وينتهي بنغمات السمسمية اللحن الغنائي الموسيقي المميز لمدن القناة.. ولم يترك سعيد شيمي بحساسيته العالية ملمحاً يرتبط بحكاية من زمن جميل دون أن يبرز سمة من سمات الجمال في هذه الحكاية.
لقد مر علي حكاية وهدان سنوات طويلة. لكن يظل جوهر ما تنطوي عليه من معاني خالداً في ملف بطولات أبناء الجيش المصري.. الملف الذي مازال مفتوحاً. يضاف اليه يومياً حكاية جديدة وبورتريه رائع للشباب من أبطال أولادنا من القوات المسلحة..
اختلفت طبيعة الحروب وظل العدو هو نفسه وإن تغيرت أدواته وتكتيكاته. صار الإرهابيون المتأسلمون ضمن عُدته وسلاحه وهم من يظهرون في مقدمة المشهد الآني في الحرب علي الإرهاب.. فالاستعمار آفة سرطانية متحولة تأخذ أشكالاً وأنواعاً قاتلة ولن يستأصلها أو يقوي علي استئصالها إلا أبناء القوات المسلحة والشرطة المصريين..
في التسعينيات "1997" تحمس سعيد شيمي لعمل فيلم عن محمد وهدان بعد أن نُشرت قصته بعنوان "حكاية من زمن جميل" نفس العنوان الذي اختاره للفيلم..
بعد أيام تعرض القناة الثانية في التليفزيون المصري هذا الفيلم التسجيلي القصير ومدته 20 دقيقة وذلمك من خلال برنامج "اتفرج يا سلام" الذي يعده الزميل مجدي الطيب الذي يعتبر أحد البرامج الجيدة التي تلقي الضوء علي الأعمال القصيرة التسجيلية والروائية وعلي أفلام التحريك لشباب المخرجين..
ومؤخراً قرر معد البرنامج أن يكرس حلقة كل شهر لأفلام الأساتذة الكبار تحت عنوان "كنوز زمن الرموز" يبدأها بهذا الفيلم الذي أعد له السيناريو وأخرجه مدير التصوير وأستاذ التصوير سعيد شيمي.
الفيلم من الأعمال القليلة التي يقوم بإخراجها هذا المصور المبدع. في هذا الفيلم أسند مهمة التصوير للمصور شريف سعيد شيمي الذي أحب فن التصوير وارثاً من أبيه وأمه مديرة التصوير المرحومة "أبيه فريد" الحاسة البصرية اللاقطة لمقومات الجمال ومظاهره.
الفيلم يستحضر ملامح المدينة من خلال مبانيها العتيقة الكلاسيكية ومعمارها المميز وشوارعها وحميمية الروح التي تستشعرها في اللقطات العامة التي ترسم الجو العام الذي يعيش محمد وهدان.. ثم "البورتريه" الحي للفدائي بنظارته السوداء التي تشير إلي العاهة المستديمة التي أصر الضابط البريطاني علي جعلها "عبرة".. والحقيقة انها شهادة تذكر بوحشية المعتدي بل وتذكر البريطانيين أنفسهم بالتعامل اللا إنساني واللا قانوني مع أسري الحرب.. عرض الفيلم مرة واحدة في التليفزيون وبعدها اتصلت محطة الـ بي. بي. سي البريطانية بالمخرج وقدمت اعتذارها عما جري لمحمد وهدان "والنبي ايه؟؟!" الأمر الذي يؤكد ان "الفيلم" وسيط مهم فعلاً.. يحفظ ذاكرة الشعوب. ويحرضه. ويقوي الروح.